العدد الرابع عشر

حفل زفاف أسطوري… اهربي

أتمشى على الكورنيش حافيَة القدمين، بلا أحذية «On» الرياضية، ولا سروال «Alo Yoga»، حين يخطف بصري مشهدٌ رومانسيٌّ على الشاطئ المقابل.
جميل الحب! لكن، كلما اقتربتُ، تبيّن لي أنه ليس عرض زواج باذخًا كما تخيّلت، بل عرضٌ لحضور حفل التخرج: «PROMPOSAL»
شاب لا يتجاوز الثامنة عشرة من عمره، لا زال يأخذ مصروفه من أهله، يقدّم عرضًا على شاطئ خاص، يتوسطه سجاد أحمر، وطريقه مُسيّج بالألعاب النارية، وباقة ورد بحجم نصف جسدي الممتلئ، وقنطرة من البالونات كُتب عليها:
Will you go to the prom with me?
الحقيقة أنني لا أفهم أصلًا حفلات الزفاف الأسطورية، ولا عروض الزواج التي تنزل من طائرات، ولا الرسائل التي تُكتب على حيطان الأبراج. ولا أفهم حفلات «كشف جنس الجنين» التي لا مكان لها من الإعراب أصلًا، ولا أعياد ميلاد الأطفال التي باتت توازي ميزانية زفاف في زمن سابق.
ما الذي يحدث؟ ما النظريات النفسية التي تفسّر هذه المغالاة؟ هذا الإفراط المادي، والمعنوي، والرومانسي؟
إليك خمس نظريات أساسية تفسّر هذه الظاهرة:
1 – نظرية المقارنة الاجتماعية (Social Comparison Theory – Festinger)
يفهم الناس قيمتهم من خلال المقارنة، لا بمقارنة صفاتهم فقط، بل بمقارنة حياتهم بحياة أقرانهم.
وهنا يرتفع سقف التوقعات… فقط لنُجاري الآخرين.
في دراسة أُجريت في السعودية عام 2023، اعترف 68٪ من المشاركين بأنّ منصات «إنستغرام» دفعتهم إلى رفع تكاليف حفل زفافهم لمجاراة ما يرونه.
2 – نظرية الهوية الاجتماعية (Social Identity Theory)
يُعرّف الفرد نفسه من خلال الجماعة التي ينتمي إليها، وهويّته تُبنى وفق «قبيلته الاجتماعية».
في تقرير Euromonitor لعام 2023 حول دول الخليج، تبين أن متوسط الإنفاق على حفلات الزفاف ارتفع بنسبة 8٪ سنويًا بين 2018 و2022، مع تأكيد 72٪ من الأزواج أنهم ضخوا ميزانية إضافية «لإثبات مكانتهم الاجتماعية».
3 – علم النفس التعويضي (Compensatory Consumer Behavior)
عندما يشتري الفرد منتجًا باهظًا، لا يكون ذلك نابعًا من مجرد ضرورةٍ ظاهرية، بل ليعوّض عن نقص داخلي أو توتر نفسي، أو ليقلّص الفجوة بين ذاته الفعلية وذاته المثالية.
والأخطر أن الإحصائيات أظهرت علاقة طردية: كلما زاد البذخ، زاد الشعور الآني بالرضا – الوهمي طبعًا.
في مصر، 30٪ من النساء يربطن البذخ في الزفاف بـ «الانتقام من ظروف صعبة» مررن بها.
4 – نظرية الإثارة المثلى (Optimal Arousal Theory)
يسعى الناس للوصول إلى مستوى مثالي من الإثارة عبر تجارب جديدة. علميًا، ينشط الجهاز العصبي المركزي، فيرتفع مستوى اليقظة (physiological arousal) وتنشط الاستجابات السلوكية…
لكن هذه الإثارة لا تدوم، وسرعان ما يعود الإحساس بالملل وقلة الدافعية… فيسعى الشخص إلى محفّز جديد، وأقوى بعد كلّ تعرّض.
وهكذا ندخل دوامة تصاعدية: السقف يرتفع مع كل تجربة.
في مجتمعٍ استهلاكيٍّ تُغرسُ في الأذهان أوهامٌ مُعلَّبة: «يومُ زفافِك هو أهمّ يومٍ في حياتك»، «حفلُ التخرجِ فرحتُك الأولى»، وهكذا….
وفي إحصاء أُجري على شركات تنظيم الفعاليات (Industry Event Benchmark Survey 2022)، تبين أن 65٪ منها تضطر إلى رفع ميزانية الحفلات بين10-20٪ كل عامين لإطلاق محفّزات جديدة تضمن مستوى إثارة معتدلًا مستدامًا.
5 – التكييف الإجرائي (Operant Conditioning – Skinner)
يفترض هذا المفهوم أن السلوك يتكرّر إذا كوفئ.
وفي عالم السوشيال ميديا، الإعجابات والتعليقات والمشاركة هي المكافآت الجديدة.
كل صورة تُنشر، كل مقطع يُشارك، يخلق ردّ فعل اجتماعيًا «مُجزِيًا» يدفع الفرد إلى تكرار التجربة… بل وتوسيعها في المرّة القادمة.
وفي إحصاء صادم أجرته Nielsen Consumer Insights (2021)، أفاد 53٪ من المستهلكين أنهم استمروا في الإنفاق الإضافي لمدة ثلاثين يومًا بعد تلقي مديح أو هدايا تذكارية في مناسبة سابقة أو على إثر إنفاق أولي لافت.
خلاصة نهائية:
ردّة الفعل الأولى أمام مشاهد المغالاة في الصرف، والتعبير المفرط، والاحتفالات المبالغ فيها، لا يجب أن تكون إعجابًا تلقائيًا أو تصفيقًا مسطحًا أو تقديرًا، بل تساؤلًا واعيًا: حول ما تخفيه وراءها من تحديات نفسية كصراع الهوية، انعدام الثقة بالنفس، التعويض المفرط، عدم القدرة على إدارة الضغوطات، والهروب…

جنان خاشوف

شاعرة وكاتبة لبنانية

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى