العدد الرابع عشر

الفضاءات الثقافية البديلة في المغرب

شهد الحقلُ الثقافي والفني بالمغرب خلال العقود الأخيرة تحوّلاتٍ عميقةً أعادت رسم أدوار الفاعلين فيه؛ إذ برزت الجمعياتُ الثقافية والتعاونياتُ والمبادراتُ المدنية بوصفها قوىً بديلةً أو موازيةً لمؤسسات الدولة والجامعات في إنتاج الفعل الثقافي وتوسيعه. وإذا كانت هذه الأخيرة قد اضطلعت تاريخيًّا بمسؤولية نشر المعرفة وتنظيم الحياة الثقافية وفق سياساتٍ مركزية، فإن تراجع حضورها وهيمنة البيروقراطية على أدائها أفسح المجال أمام مؤسسات المجتمع المدني لتملأ هذا الفراغ، بمرونةٍ أكبر وبقربٍ أشدّ من حاجات الأفراد والجماعات.

لم يعد الفعلُ الثقافي أسيرًا لجدران الجامعات ولا حبيسًا لمكاتب الوزارات؛ بل غادر الممرات الرسمية ليعانق الأزقةَ والساحات، وينبثق من دفء المبادرات الجماعية وروح التعاونيات. هناك، في فضاءاتٍ صغيرةٍ متواضعة، تُنسج خيوطُ الإبداع بأيدٍ شغوفة، وتُبنى جسورٌ بين الفنون والناس بعيدًا من الخطابات الموغلة في التخصّص والبرامج الجامدة. لقد صار الحلمُ الثقافي يسكن القاعات الشعبية، ويخفق في المراكز الجمعوية، ويتجسّد في الورشات المفتوحة على الجميع، حيث يلتقي الفنّ باليومي، وتذوب الحدود بين المبدع والمتلقي.

ومن بين هذه الفضاءات يبرز فضاء“Le 18” بمراكش، باعتباره مساحةً ثقافية وفنية مستقلة تستضيف فعالياتٍ متنوعةً، من عروضٍ سينمائية وأنشطةٍ فنية إلى لقاءاتٍ حوارية ونقاشاتٍ ثقافية. ويُعَدّ هذا الفضاء أحد الحواضن الأساسية لمبادرة “عين على فلسطين” التي تهدف إلى التعريف بالقضية الفلسطينية عبر الفنون والسينما. فقد استضاف عرضًا لفيلم المخرج الفلسطيني إيليا سليمان، إلى جانب فعالياتٍ أخرى تُبرز الإنتاجات الفنية الفلسطينية وتسعى إلى مساءلة سرديات الاستعمار، مما جعل من “Le 18”فضاءً للتضامن الثقافي العابر للحدود، وملتقى يُعيد ربط المحلي بالقضايا الإنسانية الكبرى.

كما يبرز فضاء فكر طنجة Think Tanger، الذي تأسس عام 2016 بمدينة طنجة، منصةً ثقافية تستكشف التحوّلات الاجتماعية والحضرية من خلال الفن والبحث التشاركي. ويشتمل هذا الفضاء على عدة مبادرات، منها ورش Tanger Print Club للطباعة الفنية، وThe Kiosk للعرض والابتكار، إضافةً إلى ورش StudioCity التي تركّز على القضايا الحضرية والاجتماعية، فضلًا عن مجلةMakan التي توثّق أنشطة الفضاء وتطرح قضايا الثقافة والفضاء العام. ويسعى “فكر طنجة” إلى خلق فضاءاتٍ بينية تشجع التفاعل بين الفنانين والمجتمع المحلي، وتفتح المجال لممارسة ثقافةٍ نقدية حيّة، تجعل المدينة نفسَها مختبرًا لتجارب فنية واجتماعية تتجاوز النماذج التقليدية، وتعيد للفعل الثقافي دوره في التأثير على الحياة اليومية وصناعة الوعي الجماعي.

وفي سياقٍ لاحق، ستشهد مدينة تارودانت سنة 2024 ميلاد فضاء “Tawsnalab تاوسنالاب”، وهو منصةٌ بحثية مستقلة لا تقل جرأةً وعمقًا؛ إذ تسعى إلى التجريب الحر لأشكالٍ معاصرة من التعبير الفني والثقافي، وإلى استكشاف أفقٍ ديكولونيالي جنوبي يعيد الاعتبار للثقافات المحلية في مواجهة مركزية الهيمنة والتبعية. ويقوم هذا المختبر على قناعةٍ راسخة بأن الثقافة تُبنى من تماسّها المباشر مع الإنسان والذاكرة والبيئة، وأن الفعل النقدي التشاركي قادر على تفجير طاقاتٍ جديدة للإبداع، رافضًا اختزال الفن في منطق السوق والتسليع.

إن ما يميّز “تاوسنالاب” هو دفاعُه عن عدالةٍ ثقافيةٍ تضمن حقَّ الجميع في الولوج المتكافئ إلى المعرفة، وتشبيكه التضامني الأفقي الذي يتيح للفنانين والباحثين والجماعات المحلية بناءَ سردياتٍ بديلةٍ تعكس خصوصيات الجنوب المغربي. وبقدر ما يشكّل هذا الفضاء استجابةً لفراغٍ مؤسساتي تركته الجامعات ومؤسسات الدولة، فإنه يتجاوز مجرد التعويض ليطرح رؤيةً جذرية تعيد تعريف الفعل الثقافي نفسِه: ممارسة يومية حيّة تتقاطع فيها السياسةُ والجمالُ والذاكرةُ، وتصوغ للمجتمع فضاءاتٍ ممكنةً للحلم والفعل معًا.

وتجدر الإشارة إلى أنّ هذه الفضاءات تتكاثر في مناطق متعددة من خريطة المغرب، وتسعى جنبًا إلى جنب إلى خلق ديناميةٍ ثقافية بديلة، وتشترك أغلبُها في غايةٍ واحدة: تحريكُ السكون الثقافي، والانطلاقُ من منطلقاتٍ محليةٍ أصيلة.

السعيد الخيز

روائي وفاعل ثقافي متعدد التخصصات

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى