قصة قصيرة
كان يركض بكل ما أوتي من قوة، لم يلتفت إلى الخلف، كي لا يرى الصخرة التي تركها هاربًا بعدما اهتزت وارتجت وشرعت في التشظي. مرّ قريبًا من الإسطبل. سمع ثغاءً مكتومًا لحَمَلٍ مصاب، وحمحمة مهرٍ صغير يتألم تحت الحطام. أحسّ بهول ما يحدث حوله، لكن الخوف شل مشاعره، فلم ينتبه لكل النداءات التي أطلقتها بهائم مسكينة، تلفظ ما بقي في صدورها من أنفاس تحت جدران الطين وأسقف الخشب المنهارة.
الدنيا ظلام، وصرير يشبه عاصفة قطارات مسرعة لا يزال يتردد في أذنيه، بينما هو يركض غير مصدق بنجاته من أمر لم يدرك ماهيته بعد. شعر بالتعب دفعة واحدة، فاستغرب لماذا لم يصل بعد إلى بيت العجوز!
(٢)
ارتج البيت القديم كأنه يؤدي رقصة أحواش مضطربة الإيقاع، أقبلت الجدران نحوها ثم ولّت مدبرة مرات ومرات، وملأ صوت يشبه فحيح جوقة أفاع أذنيها، لكنها ظلت في متكئها حتى تخلص سقف الأعواد والطين من قبضة الجدران الحجرية المهترئة؛ فهبّ من عليائه لمعانقتها حيث هي.
(٣)
على غير عادته، سقط مرتين على وجهه، لكن موجة الهلع المندفعة داخله كتمت كل شعور بالألم. توقف ممسكًا ركبتيه براحتيه بعدما أمسكت الأرض عن الارتجاج، ثم شرع يتلفت حوله باحثًا عن الجدران التي كان يحاول النفاذ من بينها إلى البراح المكشوف، مخافة أن تتداعى فوقه، لكن الظلام ملأ عينيه، فاستسلم.
نظر إلى المصباح الذي يرسل رشاش ضوئه للحظات ثم ينطفئ كأنما به علة. تعجب من كونه صار أقصر مما كان عليه، ثم عاود مسح المكان بحثًا عن الأسوار والبيوت، وفجأة هتف كأنه صحا من صدمة:
“يا للهول! كل شيء ابتلعته الأرض، حتى مصطبة الحجر والطين المفروشة بجلود النعاج وحصر الحفإِ، حتى شجرة التين العملاقة، وحتى سور حظيرة العنزات… رباه… لم ينج إلا جزء يسير من عمود الإنارة المائل بمصباحه الذي يبكي نورًا تخالطه عتمة بكماء!”
استمر يحدث نفسه كالممسوس، وهو ينظر إلى وجه الأرض الذي خفّت فيه زوائد الإسمنت والحجر. تذكر أن العجوز لم توصه، وهو يودعها بعدما وضعها على كنبة نومها، أن يوقظها لتصلي الفجر. منذ أسبوعين وهي تفعل ذلك. في المرة الأولى أخبرته أن دواء الحساسية يجعل نومها ثقيلًا، وأن أذنيها لم تعودا تلتقطان صياح الديك الآلي للساعة الفرنسية العتيقة. حاول المساعدة، فأحضر الممرض المتنقل الذي قام بتنظيف الأذن مما تراكم بها، فعاد إليها سمعها كما كان، لكن النقرة الأعجمية لديك الساعة أصبحت مزعجة؛ فطلبت منه أن يبعدها عنها. اعتقد أنها اعتادت على الصوت الجميل لمؤذن الساعة التي جلبتها وحيدتها من دبي، فلم يهتم للأمر.
(٤)
بعدما استعادت الأرضُ هدوءَها، أدركت أنّ البيتَ رُدِم في حفرةٍ عميقة. لم تكن تشعر بنصف جسدها الأسفل، وكانت تعلم علمَ اليقين أنه سُحق تحت ثِقَل سقف الأكاليبتوس والقصب والتراب، لكنها لم تُعِر الأمرَ اهتمامًا. كان كلّ همّها أن تعرف أنّه لا يزال في جلسته التي طالما وبّخته عليها، فوق تلك الصخرة الناتئة في البراح المنبسط، يُداعب بأصابعه فتحاتِ الناي، وينفخ لواعج قلبه في قصبته النحيلة المطلية بالقطران وصباغ الزعفران الحُرّ. كانت تنزعج لأنه يفضّل أن يحكي قصته مع مليكة الشلحة لقصبةٍ مجوّفة، ويُخفي سرَّ قلبه المجروح عن أُمّه.
(٥)
أراد أن يبكي، لكن تفكيره المبلبَل جعله يكفّ. تقدّم يشقّ الضوءَ المعتم صوب المنزل حيث تركها. فاجأته شواهد من بقايا الحيطان الطينية تطلّ من المكان الذي انتصب فيه البيت بكل كبريائه، فصاح:
– ربّاه…!
ثم ركض حتى صار فوق سطح البيت الذي استوى مع وجه الأرض. نظر يمنة ويسرة، ثم فوق، فتحْت. أراد أن يخرج من جلده ليدرك حقيقة ما جرى، لكن صمت الليل أعاده إلى نفسه. صاح مخاطبًا المرأة بلهفة:
– أمّاه… أماه… الحاجة بَدّة…
غار الصوت في جوفه، فأصغى، لكنه لم يسمع ردًّا عدا موجات نشيجه المحموم. ترنّح الضوء جوار قدميه قبل أن تبتلعه العتمة. انتظر غمزته للحظات، لكنه لم يُومض كما كان يفعل من قبل، فأدرك أنه كان يحتضر، وأنّ الموت قد أطبق عليه.
(٦)
تحت الأرض، اكتشفت أنّ سقف القش أطبق على نصف جسدها السفلي، فيما منعتها الدكّة الحجرية التي وُضعت عليها الساعة الجديدة وسبحة اللوبان من السقوط على رأسها. أدركت أنّها لا تستطيع الحركة، وأنها بالكاد تسحب إلى رئتيها هواءً يوشك أن ينفد. لكنها لم تشعر بالخوف. حدّثت نفسها أن وضعها الجديد يشبه الوضع في القبر الذي تتوق إليه منذ سنوات، فسبّحت بحمد الخالق وحمدته على قبولها عنده.
(٧)
ضربت خدَّه هبّةُ ريحٍ لعوب، وخمشَه شيءٌ صلب صغير الحجم، ظنّه حصاةً انسلخت عن سربها المتساقط من رأس الجبل الذي فتّتته مطرقة الغيب. أحكم لفّ الكشكول الصوفي حول عنقه، وتسمّر مستغرقًا في تأمّل الظلام. الدنيا ظلام في ظلام… الدنيا ليل طويل… هكذا حدّث نفسه، قبل أن يطلق صرخةً ردّدتها الجبال التي تصدّعت:
– يا حاجة بَدّة، يا خير أمٍّ فوق التراب…!
امتدّ الصدى مردّدًا نداءه فوق شواهد الصخور المطمورة ونواصي الشجر وفي صدوع الأرض، حتى سمعه العالقون تحت الأنقاض.
(٨)
“إنه صوتك يا حبّةَ عيني… يا لَسعادة روحي… لقد نجوتَ. كنتُ أعرف أنك ستأتي لتوقظني قبل الفجر، لكنك جئتَ قبل الأوان. لا بأس عليك يا حبّةَ عيني… لن يكون هناك فجر، أظنّ قضاءَ الله سيسبق. ليتني أستطيع أن ألقاك لأخبرك أن الساعة التي جلبتها أختك من دبي أحسن من الساعة الفرنسية التي صار نقرُ ديكها مزعجًا. آه من الديك الجبان… أظنّه هو المسؤول عن تناقص الزرع في الشوالات الزرقاء؛ لقد رأيتُه في حلمٍ يشبه اليقين، وهو يتسلّل من هيكل الساعة ليلًا، ويتوجّه صوب بيت المؤونة، ولم يعد إلا والفجر على وشك النداء.
لا بأس عليك يا حبّةَ عيني… لن تستطيع إيقاظي لأداء ركعتي الرغيبة، لن تستطيع ذلك، لكن لا بأس… فالألم لن يسمح لي بالنوم. المهم أن تعلم أنّ الساعة العربية أحسن… أرجو أن تؤول ملكيتُها إليك، لتسعد روحك كل صباح بصوت مؤذّنها الجميل.”
(٩)
ترامى إلى مسمعه صوتُ أذانٍ خفيض، أدرك متأخّرًا أنّه يصعد من الأسفل. تطلّع بحيرةٍ إلى المسجد المبنيّ في بقعةٍ أعلى من مكانه، فرأى الصومعة البيضاء لا تزال واقفةً في الغبش، يجلّلها صمتٌ شجيّ.
نظر تحت: كان الليل يلملم أسمالَه حزينًا باكيًا، ويذوب في شقوق الأرض. صمت المؤذّن ذو الصوت الرخيم، فبلعت الدنيا لسانها، وأنصت الكونُ لعِظامه. وللمرة الأولى طاوعه لسانُه، فقالها: “الزلزال”!
قالها، فقفزت إلى صفحة باله صورتُها المعهودة وهي تناجي ربّها طالبةً قبرًا رحيمًا، ويُسرًا في خروج الروح.
(١٠)
أحسّت الحاجة بَدّة بالجلبة في الخارج، سمعت طرقًا مستبسلًا، فأدركت أنّ المنقذين وصلوا. أصاخت السمع قليلًا حتى تأكّدت أنّ ما تسمعه حَفْر. أرادت أن تهتف بكل ما في صدرها من قوّة:
“اذهبوا إلى بيت الحاج موح، فيه توأمٌ عمرهما ثلاثة أيّام!”
لكن الصوت ظلّ حبيسًا في حلقها. أعادت المحاولة فأحسّت وخزًا شديدًا في صدرها، جهة القلب. استرخَت كما يجب، وتمنّت لو أنّ أحدًا من الناجين يدلّهم على بيت الحاج موح. تمنّت ذلك، قبل أن تشعر بظمأٍ شديد، وتسمع غرغرةً متردّدة في حنجرتها.
(١١)
لم يدرِ كيف باغته النوم، ولا كيف وصل إلى المكان المعزول الذي وجد نفسه نائمًا فيه. استيقظ مفزوعًا، أحسّ ألمَ الفقد فظيعًا في قلبه، ونظر جهة الدوّار الذي اعتاد أن يستقبل صباحات الله بأطفاله اللاهين، وعنزاته المتقافزة في كل مكان، وجرائه الصغيرة التي تنبح قرص الشمس برعونة.
لكنّه لم يرَ غير حفّارين يهوون على الأرض بفؤوسهم الصدئة بإصرارٍ كبير. صاح:
– أمّاه…!
والتحق بهم.
قرب الرجال الغرباء الذين يحفرون، رأى أكوامًا من الطعام والأغطية لم يرَ مثل وفرتها من قبل، ورأى نساءً وشبابًا يبتسمون له، وعيونهم تفيض بالدموع. قال:
– كأنها الجنّة…
ثم صرف بصره صوب المكان الذي كان فيه بيت أمّه، وتابع كلامه وهو ينظر في وجوههم التي بلّلتها الدموع:
– لم أوقظ أمّي… كانت ستُصلّي… وتحلب العنزة لتوأم بيت الحاج موح.