العدد الثالث عشر

وداع زياد الرحباني… حين يتحوّل الحزن إلى هوية وطن

في لحظة من الحزن الصافي، رحل من جعل من الحزن مذهبًا، ومن النكتة فلسفة، ومن الهزيمة موسيقى تُعزف على أرصفة وطنٍ يتقن الخيبة.

وفي لحظة لا تشبه إلا زياد، كتب شادي منصور نوتته الحزينة في وداع الأربعين، لا كمن يرثي فنانًا ولا كالرثاء التقليدي، بل كمن يودّع وطناً كاملاً، كمن يدخن وجعه على رصيف شارع الأحلام، ويضحك على خيبته، ويبكي آخر المجانين في وطنٍ نسي العشق، وتاه في طوابير الاستزلام وقرف السياسة. كتب رثاء يشبه زياد نفسه: ساخرًا، موجوعًا، حقيقيًا. وأنا، حين قرأت كلماته، شعرت أنني لا أقرأ نصًا، بل أعيش لحظة انهيار جماعي، كأنّ شادي كتب عنّا جميعًا، لا عن نفسه فقط يبدأ النص من لحظة شخصية جدًا، صباح السبت المشؤوم، حيث كان الكاتب يرتّب أشياءه، فإذا به يبحث عن نفسه بين تلك الأشياء.

هذه الصورة البسيطة تختصر ما يعنيه الحزن الحقيقي: أن تفقد شيئًا داخلك، أن تتبعثر، أن تبحث عنك في تفاصيلك الصغيرة. ثم تأتي الصدمة، لا عبر مشهد درامي، بل عبر “الهاتف الذكي الغبي”، الذي يختزل كل قسوة التكنولوجيا حين تُخبرك عن موت من تحب بكبسة زر. هنا، ينجح شادي في تحويل لحظة إعلامية باردة إلى لحظة وجودية ساخنة، حيث تنهار الذات، ويبدأ الانهيار الداخلي. لا يخجل من البكاء، ولا من الفضفضة، بل يعلنها بوضوح: “ليس عيبًا على الرجل أن يفضفض، ففي الفضفضة علاج”. هذه الجملة وحدها كافية لتكسر تابوهات كثيرة حول الرجولة والحزن، وتفتح بابًا للصدق الإنساني.

لكن النص لا يبقى في الحزن الفردي، بل يتسع تدريجيًا ليصبح حزنًا جماعيًا. يقول شادي: “الحزن على رحيل زياد لم يكن شعورًا فرديًا، بل بدا وكأنه حزن جماعي شامل”. وهنا، ننتقل من الذات إلى الوطن، من القلب إلى الشارع، من الغرفة إلى بيروت. مشهد الوداع أمام مستشفى خوري في الحمرا ليس مجرد لحظة جنائزية، بل لحظة وطنية، حيث يخرج الناس من كل الطوائف والمناطق ليودّعوا من لم يساوم يومًا على الحقيقة. في هذا المشهد، تتجلى عبقرية زياد: الرجل الذي هاجم الجميع، عاد ليكون للجميع. حتى خصومه السياسيين وقفوا بخشوع أمام نعشه، وكأنّهم يعترفون بأنّ زياد، رغم صدامه معهم، كان جزءًا منهم، أو بالأحرى، كان فوقهم جميعًا. ثم يتوسّع النص أكثر، ليشمل العالم العربي، من مصر إلى تونس إلى الجزائر، حيث شعر محبّوه باليُتم ذاته.

وهنا، يطرح شادي سؤالًا ضمنيًا: كيف استطاع زياد، بهذا المزاج الحاد، أن يكون جامعًا؟ والجواب يأتي في وصفه له بأنه “رمز مختلف، صوت جريء، وموسيقى غير مألوفة، تجمع بين العبث والحكمة، بين الألم والضحك، بين نقد مرير ورجاء مستحيل”. زياد، كما يراه شادي، لم يكن مجرد فنان، بل كان حالة وجدانية وفكرية، استطاعت أن توحّد ما عجزت الحروب والمصالح عن جمعه. حتى في موته، كان استثنائيًا.

حتى في غيابه، كان حاضرًا. وفي ختام النص، يعود شادي إلى ذاته، ليكتشف أن حزنه لم يعد فرديًا، بل صار جرحًا مفتوحًا نتشاركه جميعًا. وهنا، تتجلّى أجمل لحظة في النص: حين يتحوّل الحداد الشخصي إلى حداد جماعي، وحين يصبح اليُتم شعورًا وطنيًا، لا فرديًا. زياد، كما يراه شادي، لم يرحل فعلًا. بل استقرّ فينا، في أصواتنا، في ضحكاتنا، في تنهيداتنا، في كل لحظة صدق نعيشها. وهذا هو عزاؤنا الوحيد: أن زياد، الذي كان حاضرًا بيننا، سيبقى حاضرًا فينا.

ريتا نجيب نفاع

نادي الكتاب اللبناني

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى