مدارات ثقافية… الشمس تشرق من المغرب
لأن تتحوّل فكرة الصحافي أو الصحافة من الخبر والتقرير وما شابه، إلى خلق “مدارات ثقافية” تعمل على توثيق نمط الفكر أينما كان، وتنميط المفكّرين في مختلف مجالات الحياة، لَهُو قفزة عالية في فضاء صاحبة الجلالة، البلاط الملكي، السلطة الرابعة، لم يشهد عالم الصحافة من قبل مثيلًا لها. وهذا ما يفعله الأستاذ الكبير الصحافي عبد الحي كريط، الشاب المغربي الذي يحمل لواء التجديد في عالم الصحافة الحداثوية اليوم بكل ثقة، ليقدّمه إلى عالم الأدب والفكر والتاريخ. وهو، بلا شك، جدير بأن يكون أوّل من نفذ إلى هذا المجال.
إذًا، نحن أمام فتحٍ صحافي جديد يجمع بين التوثيق والتاريخ والفكر والأدب، في قالب صحافي يميّزه عن أبناء جيله في المنطقة العربية. هذا ما نلمسه بوضوح في كتابه الموسوم “ضفاف حوارية: في الفكر والشعر والرواية”. وأوّل ما لفت انتباهي فيه هو طريقة صياغة الأسئلة الموجّهة إلى الشخصيات المحاوَرة، إذ تتسم بالقوّة والعمق، وهي طريقة قلّ أن نجدها في صحافتنا السودانية، وإن كان هناك من الروّاد من بذلوا جهدًا مشكورًا. لكنّي أُحيل الفارق في ذلك إلى التنوّع الثقافي والانفتاح على العالم الخارجي الذي لم يُتح لكثير من الصحافيين السودانيين. وهذا باب واسع ليس موضع تفصيله هنا، وأكتفي بالإشارة إلى الفارق بين الأساليب المتبعة في إدارة الحوار.
وأشير أيضًا إلى موسوعية الأستاذ الكاتب الصحافي المغربي في موضوعات الأسئلة واختيار الشخصيات؛ إذ تتنوّع وتختلف من شخصية إلى أخرى، ما يدلّ على سعة التجربة وتطوّرها، وسعيه إلى ملامسة مجالات مختلفة. والأهم من ذلك أنّه ينتقي شخصيات ذات وزن فكري وأدبي ومجتمعي كبير من مختلف أنحاء الوطن العربي، من الخليج إلى المحيط: تونس، المغرب، السودان، سوريا، مصر، ليبيا، وغيرها. وربما تجاوز ذلك – كما تابعت له في الميديا – إلى إسبانيا وأوروبا. غير أنّ الشاهد هنا ليس مجرّد التنوع، بل الإغناء المعرفي الذي يقدّمه للقارئ العربي والعالمي، من خلال تعريفه أولًا بالشخصية ومكانتها في بلدها، ثم عرض تجربتها الفكرية أو الأدبية أو الصحافية بأسلوب حواري عميق يستحق التقدير والإشادة بلا مجاملة…
هنا تبرز القيمة الفكرية والثقافية للحوار؛ سواء في تعريف الشخصية وتقديمها للقارئ العربي، أو في إبراز أهم النقاط المثيرة للجدل في الوسط الفكري أو الأدبي، وهي النقاط التي يرتكز حولها الحوار، أو قل: المانشيت العريض الذي يثير تساؤلًا ما لدى القارئ. فهو يأخذ بتلابيبه شرحًا وبحثًا واستقصاءً وتعريفًا.
وهذا ليس ببعيد عمّا نسمّيه في الصحافة “الخبطة الصحافية”، مثل حواره مع الأديب المغربي – الألماني نور الدين الغطّاس حول عمله الأدبي “الملائكة تحبّ الليمون”، وحواره مع القاص السوداني الصاعد “أبو ذر آدم الطيب” حول عمله “يقظة مبعثرة”، الذي استقى منه عنوانًا عريضًا:”استشراف المستقبل من أجل السلام”. وكذلك حواره مع الروائية المغربية والطبيبة بلقيس بابو، التي استلهم منها عنوانًا لافتًا: “الكتابة فضاء يمنحنا خفة نرقص بها على السطور بحرية”.
أما الحوار الأبرز والأعمق فهو مع المفكر والروائي الكبير عبد الإله بن عرفة، وهو من أخطر وأقوى الشخصيات وأغناها في الكتاب، حيث تناول تجربته الروائية، ولا سيّما روايته “ابن الخطيب في روضة طه”، وعددًا من رواياته التاريخية التي حوّل فيها المادة الجامدة إلى سرد حيّ نابض بالشخوص والتداعيات. وقد صاغ عنها مقولة لافتة: “الرواية العرفانية في مسيرتها نحو آفاق العلمانية”. وهي تجربة تستحق الوقوف عندها طويلًا.
وكذلك حواره مع الكاتب السوداني الأستاذ عماد البليك، الحائز على عدد مرموق من الجوائز العالمية في مجالات القصة والرواية والفكر، والذي اختار له عنوانًا بارزًا: “تجربة بوذا النبي: تجربة إنسانية في نهاية المطاف، كمثل عيسى ومحمد وموسى وسقراط وزرادشت”.
ومثل هذه المانشيتات اللافتة للنظر لا تجذب القارئ من باب الدهشة والإثارة والفضول والتسويق فحسب، بل أيضًا من باب التطرق إلى مصطلحات ومفاهيم حداثوية متعمّقة، ينتبه إليها القارئ الحذق والعادي على السواء؛ لأنها تستفز شواغف المعرفة، وتدعوه إلى التثاقف لامتلاك المعلومة من ناصيتها. كما قال أبو الطيب المتنبي:
ودون سميساط المطامير والملا وأودية مجهولة وهجولُ
بهذا، يفتح الكاتب آفاقًا جديدة، ليس في عالم الصحافة فحسب، بل في باب المعارف الأوسع. ويضيف المتنبي في موضع آخر:
بيننا لو رعيتم ذاك معرفة فإن المعارف لأهل النهى ذمم
الحضور الفني التشكيلي كان حاضرًا بين طيات هذا الكتاب الممتع والمتميّز بلا شك، وهو فن قائم بذاته، ونحن في السودان قليلًا ما نوليه الاهتمام، سواء في المعارض أو فنون الكاريكاتير، ونعتبره أحيانًا ترفًا زمنيًا وعصفًا ذهنيًا خارج إطار الإلهام الفكري. إلا أن الأستاذ كريط يشيح عنه الوشاح ويزيل عنه اللثام بفكرة رائعة وجدية واهتمام، كما يظهر في حواره مع الفنان التشكيلي المغربي الأستاذ عزّام مدكور، فيعيد بذلك الصنيعَ التركيزَ بضربٍ من الفنّ المجهول، أو قل المتجاهَل، مستحضرًا تجاربَ أساتذةٍ مثل ناجي العلي الفلسطيني. وعبد المنعم حمزة وهاشم كاروري وراشد دياب من السودان، الأخير الذي بلغ اسمه وسمعته ورسوماته التشكيلية الآفاق العالمية. ويُعيد بذلك إلى العقل الواعي ضرورة الاهتمام بفن الكاريكاتير والنحت والرسم الحر وخلافه، على نحوٍ متوازٍ مع بقية الفنون والمواهب الشعرية والموسيقية والدرامية والسينمائية والمسرحية، وهلم جرا…
وفي اتجاه التوسع الأفقي، يطرق الأستاذ كريط باب الصحافة ذات المهام المعقدة، إذ حاور الصحافية والكاتبة التونسية المغربية منيرة الشايب، ليجمع بين الترجمة والنقد والرواية والقصة والفكر الهادف. نلمس هنا تجربة توسعية أفقية في أسلوب الحوارات الصحافية، واثقة وصاعدة إلى أقصى الحدود.
ومن الأمور المهمة التي ينبغي التنبيه إليها، خلفيات الكاتب المعرفية والمعلوماتية عن الشخصية المحاورة، إذ يقدّم تعريفًا شاملًا عنها قبل بدء الحوار، ما يمنح القارئ انطباعًا بالثقة والرصانة، ويُثبت أن المحاور يمتلك معرفة معمقة بالشخصية، بما يثري رصيده الشخصي الصحافي، ويعزز رصيد الصحافة عمومًا.
وتُذكّرنا هذه التجربة بالتجارب المماثلة لكلٍ حسب وقته وزمنه، مثل الأستاذ الكبير البروفيسور أنيس منصور، الذي أرّخ ووثّق لكبار الشخصيات في القرن العشرين بأسلوبه ونهجه الخاص في المجالات الفكرية المختلفة، من الصحافة مثل كامل الشناوي، إلى الأدب مثل القدير عباس العقاد وطه حسين، والرواية مثل ألبرتو مورافيا الإيطالي وسومرست موم البريطاني، والدراسات العلمية مثل كتابه “الذين صعدوا إلى السماء” و”وكانت الصحة هي الثمن”، ما رفع رصيده الثقافي الشخصي، وأكسب العمل الصحافي عمقًا معرفيًا وفكريًا، سواء في التوثيق والتاريخ أو الأدب والشعر والرواية والسيرة الذاتية والدراسات الأكاديمية وضروب التأليف المختلفة.
وأنا سعيد للغاية بتقديم هذا الكتاب المميز، المهم في بابه، لصاحبه الأستاذ عبد الحي كريط، الباحث والكاتب والصحافي المغربي المهتم بالشأن العام الإسباني، ومدير نشر صحيفة “أنباء إكسبريس” الإلكترونية. وكان له من قبل كتاب بعنوان “نوافذ حوارية: في الأدب الإسباني والفن والفلسفة – رحلات وأسفار” عن دار بدوي للطباعة والنشر في ألمانيا سنة 2024، وقدّمه له المفكر الأستاذ إدريس هاني.
وأسأل الله أن ينفعنا هذا السفر القيم بما نعرف، وأن يعفو عنا ما لا نعرف، فإن الشمس الآن تشرق من المغرب العربي الأصيل وشعبه النبيل، ليجد هذا الكتاب القيم مكانته المرموقة في المكتبة العربية والعالمية على السواء.