العدد الرابع عشر

قصة قصيرة: المعصم الذي لن يفلت 

الوشم الأمازيغي على معصمها لم يكن مجرّد نقش، بل ومضة، برقًا قصيرًا خاطفًا أضاء عتمةً في داخله.
لم يكن يعرف اسمها بعد، ولا يدري إن كانت ستلتفت نحوه، أو إن كان للوشم أن يفصح عمّا أخفاه.

أمين، الثلاثيني، وسيم تتهافت عليه بنات الحي وبنات الأعمام والأخوال. لكنه رصين، لا يشبه شباب اليوم الذين تثيرهم الاستدارات العابرة للإناث. علاقاته العاطفية يلفّها الغموض، فلا أحد يعرف عنها شيئًا. درس بتفانٍ حتى صار طبيبًا بيطريًا، ولم ينجذب يومًا إلى كل من مرّت أمامه أو إلى الأحاديث الرخيصة. ربما كان يبحث عن جمال دفين، جمال بوابته غير مكشوفة للعامة.

كانا واقفين ينتظران دورهما داخل مؤسسة بنكية. فستانها يغطي ركبتيها، بلون أبيض كريمي، وسوار فضيّ رقيق يداعب وشمها. أحرف منقوشة على جلد ناعم دفعت لسانه لينطق:
ــ معذرة، هل لي أن أعرف معنى الكلمة على معصمك؟

ابتسمت ابتسامة خفيفة، وقالت:
ــ تودا… اسم أمازيغي يعني “المحبّة”.

ردّ بابتسامة، وكان على وشك أن يقول شيئًا، لولا أن مدير البنك تدخّل مرحّبًا به بحرارة ومعتذرًا لأنه لم ينتبه إلى وجوده إلّا حينها.

دخل أمين مكتب المدير، وحين خرج لم يجد الفتاة. غادرت من دون أن يعرفها، من دون أن يخبرها أنه أحبّ المحبّة على معصمها. خرج هو الآخر وفي صدره ارتعاشة من اسمها، وشيء يشبه وعدًا لم يُقطَع بعد.

ألن يلتقيا مجددًا؟
ألن يعبث بهما القدر كما يعبث الخريف بأوراق الشجر؟
تمنّى لو تنسى بطاقتها وتعود بعد دقيقة، أن يصطدما عند زاوية الشارع، أن تسقط أوراقه ويمدّ يده فيجد معصمها من جديد… ثم يسمح الزمن بشيء من العذابات المستحبّة، أو بالكثير… لا يهم. فالكلّ يعرف أن طريق الحب محفوفة بالشوكولاتة والشوك معًا.
تذوب روحك في قِدر كبير من الكاكاو وزبدته، ثم تتجمّد كمدًا وحزنًا كلّما كان ذوبانك لذيذًا.

سيناريوهات عديدة نسجها خيال أمين، لعلّ إحداها تتحقّق. قصص نُسِجَت أمام مدخل البنك… ذلك المكان الذي يتألّق فيه المال، فيلهث وراءه الناس جميعًا، مؤجّلين دفء المشاعر، متلفّعين بثوب الميكيافيلية.
لكن أمين سكنه طيف الفتاة الغائبة. وقف طويلًا، ثم رفع حاجبيه ومشى. ليس كلّ ما يتمناه المرء يدركه. فليكن ما يتمناه “المصمِّم”، إذًا.

رنّ الهاتف مقاطعًا خطاه. توقّف ليرى هوية المتصل، فإذا بها كاتبة طبيب الأسنان تذكّره باقتراب موعده.
ظلّ متسمّرًا يحدّق في الشاشة، حتى سرقت انتباهه موسيقى صادرة عن فنّاني الشارع. لم يُجب على الاتصال، أعاد الهاتف إلى جيب الجاكيت، ثم غيّر مساره، وكأنّ للموسيقى خيوطًا، بل حبالًا متينة تجرّه إليها.

كانت القطعة التي سحبته تسحب كلّ الضائعين، حتى أولئك الذين لا يفهمون معاني كلماتها. يحبّونها جميعًا… هوتيل كاليفورنيا.

في قلب الرباط، رسخت الأغنية في قلبه، وقد ظنّ أنّها ستشغله عن التفكير في الفتاة. جلس على مقعد خشبي، وأخذ يهزّ رأسه هزًّا خفيفًا، كمن ينتشي برائحة الكوليتاس، وصوت الأجراس، والشمبانيا الوردية، والمرايا، وذلك التيه الروحي الذي ترمز إليه القطعة الخالدة.
وكلّما ردّد المغنّي: Such a lovely face، وقفت تودا أمامه مبتسمة بوجهها الجميل.

كان قلبه فندقًا لفتاتين:
الأولى تزوّجت،

 والثانية كذلك،

والآن، الثالثة تبخّرت…
لكن يبدو أنّها ستطيل الإقامة.

لم يكن أمين يعلم، وهو يغادر الساحة التي صدحت فيها هوتيل كاليفورنيا، أنّ بعض الوشوم لا تُرسم بالحبر. مضى بخطى هادئة، وروحه لا تزال تهتزّ ببقايا نغمة، وفي قلبه ظلّ اسم لا يُمحى… تودا.

ربّما يراها ثانية. ربّما سيهديها العمر عند منعطف الصدف. إلا أنّه، منذ ذاك اليوم، صار يمشي كمن ينتظر مصادفة جديدة، مدركًا أنّ الحب لا يطرق الأبواب العالية، بل ينساب مثل موسيقى قيثارة، أو يحفر نقشًا على معصم الزمن.

وبينما كان يستعدّ لعبور الشارع إلى الضفّة المقابلة، استقرّت يدٌ خفيفة على كتفه. استدار بدهشة، فرأى عينيها. كانت هي…
توقّف قلبه للحظة، أو كاد. قبل أن تهمس بصوت خافت:
ــ لا نلتقي مرّتين عبثًا… أمّا الثالثة فسأعدّها علامة.

ثم مرّت بجانبه بخطوات هادئة، واختفت في الزحام.
ظلّ واقفًا مكانه، محدّقًا لا يدري: هل يتبع أثرها، أم يكتفي بهذا القدر من اللقاء؟ آملاً أن تجيء قريبًا كقدَر لا يخيب.

آمال صفوان

قاصة مغربية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى