العدد الثالث عشر

لم أستوعب بعد!

كنتُ أرتبُّ أشيائي آخر يومٍ من عطلتي في صبيحة ذاك السبتِ المشؤوم، فصرتُ أبحثُ بينَها عَنّي، لَعلّني ألملِمُ بقيّةً إحدى بقايا قلبي المثقوب!

ليس عيبًا على الرجل أن يفضفض، ففي الفضفضةِ علاجٌ 

ليسَ ذنبًا، ليس خطيئةً أن يبكي

لا خجلَ في أن تتدحرجَ دموعُه،

ليس حرجًا أن يتنهّد وتختنقَ أنفاسُه، وتتعالى شَهَقاتُه من كثرة البُكاء!

يومها أعلمني الهاتفُ الذكي الغبي الذي صُمّم لربطنا وتقريبنا من بعض عن رحيل زياد الرحباني وعن ٦٩ عامًا!

يا لوقاحته! يا لخبثِه! 

هكذا، بهذه البساطة وبكبسة زرّ، دون تحضير أو استئذان، ينهارُ قلبُك وتُغمَرُ بالزعلِ دُفعَةً واحدة، وتُهزَم! لم أكّن في وعيي واللاوعي مهيّئًا لتقبّل وفاة زياد، وكأنّه وُلدَ ليُخلّد!

اعترفُ أنّني ولغاية اللحظة، وفي معرض الحديث عنه ارتجف عند استخدام فعل الماضي الناقص “كان” وأخواته وأولاد عمومه وأنسبائه! يا لعبثية الحياة!

يُهزم الرجل عادةً، ويتيتّم حين يفقد أمَّه أو أباه ولكنّي أحسستُ باليُتم مع رحيل زياد.

برحيله غادر شيئاً ثمينًا روحي، فقدَ شغفي مُلهمَه، وتيتّم عقلي!

أربعون غيابه، كاليوم الأوّل

زعل ووجع، مشاعرٌ مهزومة وما زالت روحي تقيمُ الحدادَ، حتّى خِذلاني حزين!

الحزن على رحيل زياد لم يكن شعورًا فرديًا، بل بدا وكأنّه حزن جماعي شامل، كأنّ لبنان كلّه فقد أحد أبنائه. ما إن انتشر الخبر حتى اهتزّ البلد بأسره؛ حتى خصومه السياسيين، الذين لم يسلموا يومًا من نقده اللاذع وسخريته القاسية، وقفوا أمام غيابه بخشوع، ينعونه بصدق ويذرفون دموعهم عليه. وكأنّ زياد، رغم صدامه مع الجميع، كان ينتمي إلى الجميع في النهاية.

من أمام مستشفى خوري في الحمرا، في الشارع الذي عاش فيه معظم أيامه، بدأ مشهد الوداع. لم يكن وداعًا عاديًا: بيروت، التي اعتاد زياد أن يفضح عيوبها بأغنياته وكلماته، خرجت لتبكيه. رجال ونساء، شباب وشيوخ، من مختلف المناطق والطوائف، اجتمعوا لتشييع رجل لم يساوم يومًا على الحقيقة. دموع متقطّعة، تصفيق يختنق بالبكاء، أغنيات تتردّد في الفضاء كأنّها صلاة، ووجوه تتزاحم لتلمس نعشه لحظة، علّها تحتفظ بجزء من روحه بعد رحيله.

ولم يقتصر الحزن على بيروت وحدها. في مصر وتونس والجزائر وسواها، شعر محبّوه بالصدمة ذاتها. وكيف لا؟ وهو بالنسبة لهم رمز مختلف، صوت جريء وموسيقى غير مألوفة، تجمع بين العبث والحكمة، بين الألم والضحك، بين نقد مرير ورجاء مستحيل. من النادر أن ترى شعوبًا منقسمة في السياسة والدين والفكر، تجتمع في لحظة واحدة على البكاء. من النادر أن تدمع عيون الذين كان يهاجمهم بأغانيه ومسرحه، لكنّ غرابة المشهد تزول حين تدرك أنّ الراحل هو زياد.

ذلك هو زياد: لا يشبه أحدًا، ولا يشبهه أحد. حتى في موته، استطاع أن يوحّد ما عجزت الحروب والمصالح عن جمعه. زياد الذي علّمنا أن نغنّي حزننا وضحكنا معًا، غاب تاركًا الجميع يتامى، لا كأفراد متفرّقين، بل كجماعة واحدة، كأنّ الوطن نفسه فقد قلبه.

أعود اليوم إلى حزني الأول، إلى ذلك الألم الشخصي الذي خلتُه أثقل من احتمالي، فأكتشف أنّه لم يعد جرحًا فرديًا، بل صار جرحًا مفتوحًا نتشاركه جميعًا، أنا وهذا الوطن وأبناؤه، بل وحتى شعوب أخرى رأت في زياد جزءًا من ذاكرتها ووجدانها. لم أعد وحيدًا في الحداد؛ فقد اتّسع حزني ليصبح حزن وطن، بل حزن أمة بأسرها.

اللبنانيون قد يختلفون في السياسة والهوية والمستقبل، لكنّهم لم يختلفوا يوم رحل زياد. بكاه الجميع، وكأنّ رحيله كشف عن إنسانيتنا المطمورة تحت ركام الانقسام. صحيح أنّه لم يترك لنا حلولًا جاهزة، لكنّه ترك إرثًا من الأسئلة، ومن الموسيقى، ومن الكلمات التي تسكننا وتذكّرنا دائمًا من نحن.

ذلك اليُتم الذي شعرت به في عزلتي، أصبح يُتم وطن كامل. ومع ذلك، وسط هذا الحزن المشترك، يطل عزاء خفي: أنّ زياد لم يرحل فعلًا، بل استقرّ في أصواتنا، في أغنياتنا، في طرقاتنا، في كل ضحكة ساخرة وكل تنهيدة صادقة. زياد الذي كان حاضرًا بيننا، هو زياد الذي سيبقى.

شادي منصور

المدير العام

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى