العدد الثالث عشر

زياد الرحباني … القداسة المفرطة!

 وصل زياد الرحباني في حياته إلى حالة غريبة لا يمكن وصفها أو تحديدها بسهولة. فمنذ أن بدأ يدخل حياتنا بأعماله الفنّية البسيطة شكلًا ومضمونًا، راحت خطّة التغلغل الناعم تعمل في المشاعر والأحاسيس، حتى صار في العيون والقلوب والأرواح شيء من هذا الفتى الأرعن.

والغريب أنّ هذه الخطّة المزعومة لم تكن من عنديّاته، ولا هو فكّر بها أصلًا. التموضع جاء تلقائيًّا، بلا مقدّمات ولا دراسات.

قدّم الفتى مسرحيّة بسيطة، فيها بعض الأغاني، تمامًا مثل أي لعبة هواة، مثل أي مجموعة شباب قرّروا ممارسة هواية ما. بعضهم اتّجه إلى الرياضة، كرة القدم أو كرة السلّة أو غيرها، وهو، الآتي من بيتٍ فيه كلّ المواهب الفنيّة، جاء بمسرحيّة. كانت وليدة اللعب والمشاغبات، سمّاها “سهرية”.

هذه “السهرية” استوحاها من أعمال والده وعمّه وأمّه، وكلّ ما قدّمه عاصي ومنصور على المسرح وفي الإذاعة. كانت «اسكتشات» الأخوين رحباني، التي تبثّها الإذاعة اللبنانيّة، مجرّد مواقف كوميديّة تمهّد لتقديم الأغاني والموسيقى والصوت الجميل المكتشف حديثًا الذي سمّاه حليم الرومي «فيروز»، قبل أن يدخل الرحبانيّان على الخطّ ويأخذاها إلى عالم آخر…

بدأ زياد بـ “سهرية”، وهي مواقف ضاحكة فيها الكثير من الغناء الجميل، غناء يبشّر بأنّ موسيقيًّا جديدًا في الطريق إلى العالم الرحباني المبهر.

ذهب صديق العائلة، خالد عيتاني، منتج مسرحيّات الأخوين رحباني وصاحب صالات السينما، وفي طليعتها “قصر البيكاديللي”، لمشاهدة هذا الاكتشاف الجديد في قرية بعيدة. أعجبته المسرحية كثيرًا، فطلب من زياد أن يأتي بها إلى بيروت. قال له الفتى: «لا نملك أجرة شحن الديكورات». فتولّى أبو غياث كلّ شيء، وأحضر زياد وفرقته ومسرحيته إلى بيروت. نجح وأبهر.

لاحقًا، جمّل زياد الحالة، وبرمجها، وقدّم عملًا آخر أكثر حرفيّة ودقّة: مسرحية “نزل السرور”. هذه المرّة، بكلّ جدّية وحرفيّة، جاء الجمهور إلى مسرح «أورلي»، وكان الإنتاج أيضًا لخالد وهاشم عيتاني، اللذين كانا يحتكران مسرحيّات عاصي ومنصور على مسرح البيكاديللي.

جغرافيًّا، كان “قصر البيكاديللي” في الجهة العليا من شارع الحمرا، بينما تقع «أورلي» في الجهة السفلى. فكانت الصورة واضحة: فيروز والأخوان يقدّمان أعمالهما في القصر العالي والفخم، وزياد يقدّم مسرحيته في صالة صغيرة متواضعة، كلٌّ على قدر حجمه وشهرته وجمهوره… لكن مع مسرحيّات تالية، وصل زياد إلى العرض على المسرح الكبير في “قصر البيكاديللي” نفسه.

ذات يوم، كنت في مكتب المنتج خالد عيتاني. كان مسترسلًا في الحديث عن الأفلام الأميركيّة التي ستصل قريبًا إلى بيروت، مؤكّدًا أنّها ستلقى إقبالًا كبيرًا، وأنّه سيقدّم، كالعادة، عرضًا خاصًّا للنقّاد والصحافيّين في “مسرح الجيب” (صالة صغيرة بمئة مقعد تابعة لسينما سارولا). دخل زياد الرحباني علينا، وكان يعرض يومها مسرحيّة “فيلم أميركي طويل”. همس في أذن المنتج الروحي (على وزن الأب الروحي)، فأمر الأخير فورًا بأن يُصرَف له المبلغ الذي يريده.

ابتسم أبو غياث وقال: زياد لا يتقاضى أجرًا عن عمله في المسرحيّة، هو فقط يأخذ ما يريده عند الحاجة. استغربتُ الأمر حينها ولم أحلّله، لكنّي لاحقًا عرفت السرّ: زياد كان يريد من خالد عيتاني أن يكون بمثابة الأب. يطلب منه ما يحتاج من مصروف،”بابا، أنا عايز مصاري”، يمنحه مبتسمًا، فيعيش زياد لحظة طفولة متأخّرة أو مستدرَكة. لحظة المتعة الحسيّة والنفسيّة: أنا طلبت، والبابا أعطى فورًا. “تكرم عينك، حبيبي”…

كان خالد عيتاني مشهورًا بلطفه وكياسته وذوقه ولسانه الحلو، وكذلك شقيقه هاشم، الذي كان أقلّ كلامًا، لكنّه لا يقلّ لطفًا، فتعرف من خلالهما أي بيت نشأ فيه هذان الشقيقان الرائعان، وأي تربية تلقياها.

لكن آخر أعمال زياد كانت كارثة على المنتج. ظلّ يعرضها حتى سدّد كامل ديون البنك الذي أقرضه المال للإنتاج. وعندما أُقفلت الصفحة، أوقف العرض وأقفل مسرحه، ولم يعد إليه.

جمع زياد الرحباني بأعماله جمهورًا كبيرًا حوله. ثم جمع جمهورًا من الشباب والطلاب الجامعيين من خلال برامجه الإذاعية التي كان يتخطّى فيها حدود التهذيب اللفظي. فهو مزّق “التابو” وأطلق ألفاظه البذيئة. في المسرحيات، وفي البرامج الإذاعية المسجّلة، كان يصدم المشاهدين والمستمعين بألفاظ غير مألوفة، كان يمكن أن تنطلق نحونا كرصاصة في لحظة صمت مطبق. عفوية زياد، وبساطة تعامله مع الناس والجمهور والأعمال الفنية، جعلته أيقونة وأكثر ألفة وطيبة وقبولًا. كانت أعماله لاحقًا مع فيروز أشبه ما يكون بتزاوج بين العشق والحب والغرام والهيام… جمهور زياد يحبّه كثيرًا، وجمهور فيروز يعشقها ويذوب فيها، وكونه ابن فيروز… هنا حدث الـ “بيغ بانغ”، وصار زياد “كلّه على بعضه” واحدًا من تلك الأسرة اللبنانية الكبيرة، في كل بيت له مقام ومقال…

هل جعل هذا الحب الشعبي الجارف من زياد شخصية مغرورة؟ أو متعالية؟ ربما…

كان زياد يزداد لامبالاة بكل شيء، صار مثل الحصان الداشر، كل ما يقوله وما يفعله مقبول. دخل أكثر في المشهد السياسي، صارت له مواقفه المعلنة، وصارت له منظمته الشعبية، وصرنا نرى بين كل مجموعة من الشباب واحدًا منهم يتكلّم مثله، ويتصرّف مثله، ويسترسل باللامبالاة مثله. حتى في بعض الأغاني، بدأ بعض الفنانين الشباب يمارسون طقوسهم الموسيقية على طريقة زياد الرحباني… الكلمات، الموسيقى، الإيقاعات، الغناء، اللكنة المرتخية، وكأن الذي يؤدّي شبه سكران، أو “مدوّخ بسيجارة ما”…  كل هذا صار مألوفًا، حتى اعتقد البعض، وساد الشعور العام، أن زياد الرحباني مدرسة لها مؤيّدون ومقلّدون، تمامًا كما المذاهب الدينية وأكثر.

هنا، تسرّب الغرور إلى شخصية زياد. صار زياد أكثر جرأة على النقد العشوائي، وصار يوزّع آراء فنية قد تكون بنت ساعتها، أو وليدة لحظتها، أو ربما ناتجة عن استفزاز مذيعة أو مذيع أرادا أن يحققا “سكوب” أو صدمة إعلامية، فيستدرجان الفنان “المش مركّز” لينتزعا منه كلمة أو تعليقًا يثير زوبعة. وقد تمّ استدراج زياد في الفترة الأخيرة إلى أكثر من مثل هذه المواقف.

زياد الذي يعتبره جمهوره أستاذًا كبيرًا، والذي انتقد أصواتًا كبيرة بسخرية أو بتجاهل، وزّع ألحانه لأي صوت من الأصوات، الضعيفة والمتمكّنة. لم يكن الهدف الربح المادي أبدًا، يكفي أن تجلس معه صبية حلوة تلاطفه قليلًا كما الطفل، فيغرق فيها حتى تصبح صديقة آمنة النوايا، فتخرج منه بصورة للصحافة، أو بأغنية، أو بوعد بلحن… صار يطلّ على الشاشات بشغف، ويستمتع بالضحك المفرط الذي يسبّبه لمحاوريه من الشباب والصبايا. كان صعبًا أن تلتقي زياد الرحباني، لكن كان سهلًا جدًا على البعض أن يستدرجه إلى حوار تلفزيوني فيه عشرات الطلقات نحو أشخاص يرفضهم… أو لا يستسيغهم.

المواقف العفوية التي أطلقها زياد الرحباني لم تكن في أغلبها صائبة، بل مجرّد هراء إعلامي… لكن الجمهور اعتبرها مقدّسات لا يجوز إنكارها. لم يكن صاحب وجهة نظر فنية محكمة أو مبنية على علم، بقدر ما هي مبنية على موقف شخصي لا علاقة له بالقواعد الفنية.

لقد أفرط الجمهور في تقديس زياد وآرائه، وأفرط زياد في استغلال هذه القداسة، لدرجة أنه في المراحل الأخيرة من حياته، لم يعد يقدّم أعمالًا موسيقية وحفلات بقدر ما كان يقدّم أحاديث سياسية واقتصادية بطريقة كوميدية. كان يختزن معلوماته وقراءاته وتحليلاته ليطلقها في حديث متلفز، بعدما كان يطلقها في أغنية ومسرحية وبرنامج إذاعي ساخر.

فالذي كان يغنّي للـ”الغني اللي عم يعطي فقير” وللـ”مش كافر بس الفقر كافر”، أغرق نفسه بالأحاديث السياسية التي كان يكوّنها من لقاءاته المكثّفة مع سياسيين أثّروا فيه، وأخرجوه من دون شعور منه من الفن والموسيقى إلى الحوارات السياسية والفكرية المضطربة.

لم يعد لديه شغف التأليف والتلحين. هو الذي يتأثّر كثيرًا، أثّرت فيه الحالة التي وصل إليها لبنان وفريقه السياسي الذي كان يؤيده ومتحمّسًا له. وكما أخذت السياسة “زياد” من الفن، أخذت المتغيّرات عقله وتفكيره، وتشتّت أفكاره، وأغرقته في حالة من اليأس الصعب، ولم تكن تنقصه مثل هذه الحالة، هو الذي كانت الأمراض تتعبه وترهقه. بمعنى آخر، تكاثرت عليه الهموم والأوجاع الجسدية والنفسية، حتى وصل إلى الانهيار التام، واليأس… والاستسلام!

زياد الرحباني لم يمرّ بتاريخ لبنان الفني والمسرحي مرور الفنانين الآخرين. لكنه، عندما رحل، كان قد حدّد موعده مع الرحيل… وربما في الوقت المناسب!

د . جمال فيّاض

إعلامي لبناني

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى