أدونيس… ما لم يقله بعد… وهل قال شيئًا؟
ما إن رشّحوه لنيل جائزة نوبل العالمية، حتى بدأ أدونيس يتعرّض لكل ألوان الاتهامات، وظهرت الشكوك والاستنتاجات التي كانت محشورة في خزان الشك إلى العلن. فبعد عشرات السنين من استغراب معارضيه، أتت النتيجة كما حبل الخلاص… أدونيس يغازل الغرب وأفكاره… أدونيس يحاول فك قيود التراث واللغة والفكر العربي، لينطلق إلى عالم أرحب طمعًا بنيل الرضى، بل بنيل المكافآت الغربية. إلا أنه لم يتهرّب من التهمة، بل أمعن في الإصرار والفكر المنفتح، وغازل الغرب أكثر وأكثر، حتى حسبناه نسخة عربية من جون بول سارتر، أو سيمون دو بوفوار… يريد أدونيس الخروج من قيود الثابت، ليصبح محور المتحوّل.
سيكون صعبًا جدًا أن تختصر أدونيس وفكره وشعره وفلسفته بسطور أو ببضعة مقالات.
سيكون صعبًا جدًا أن تقيّم الرجل الذي درسته تلميذًا، وبحثت في فكره طالبًا، ودخلت في تحليل أفكاره محترفًا وقارئًا… فالرجل يقول كلمته ويطرح فلسفته ويمشي، لا يأبه بالتعليقات ولا النقاشات… ربما، يراقب من بعد، لكنه لا يسمح لفكره أن يغوص في جلسات الدفاع والنفي والتبرير.
يتميّز أدونيس عن مجايليه أنه دخل الزمن من البداية البريئة، وظلّ فيه حتى زمن الذكاء الاصطناعي، أي فرصة ذهبية نالها؟ أي فرصة هذه أن يتاح للمفكر الكبير مواكبة أعظم وأبرز قرن في تاريخ البشرية، القرن الأكثر تحوّلًا… القرن الذي نظر إليه من بداياته، ومشاه خطوات بدائية، فرأى أن لا بد من أن يتحول فيه كل ثابت، ولن يثبت فيه أي شيء على حاله. وكأنه كان يقرأ القادم فيدوّنه، ليأتيه التأكيد بأسرع من انتشار أفكاره ورؤيته.
تعرّض أدونيس لأعنف أنواع الهجوم والرفض والنكران، وقلّة تلك التي كانت تقتنع بما يفلسفه، لكنهم عادوا ووقفوا أمامه ليقولوا إنه صاحب الرؤية. عندما انضم إلى جماعة “شعر” بقيادة المؤسّس المشاكس والمختلف يوسف الخال، كان واحدًا من هؤلاء الذين رفضوا ولم يهادنوا، ولم يستسغ التملّق، ففضَّل المواجهة على المهادنة. وفي كل معركة خاضها، كان ينتقل إلى ميدان مواجهة، وساحة معارك تريحه في إطلاق فكره على مساحات رحبة. ووصل إلى اللامكان واللانتماء، فصار ابن كل الأماكن، وانتسب إلى كل الأزمنة.
ليس سهلًا أن تكون أدونيس، ولا أن تكون المقاتل الذي لا يتعب ولا يخاف ولا يهادن.
عندما تصل إلى مرحلة عمرية متقدّمة، يصبح الجميع متسامحًا معك ومعجبًا بك ومؤيدًا لأفكارك، وكأنها مرحلة النضوج التي يحتاجها العقل ليصبح أكثر طواعية. وإذا كانت الفلسفة عصيّة على العقول وهي في مرحلة الفتوّة، سيكون سهلًا جدًا فهمها وتقبّلها عندما تنضج تمامًا كما الثمرات.
إذا قرّرت أن تكتب تحليلًا في ما كتبه الشاعر أو المفكّر، أو تعالج فلسفته وتناقش عقله وفكره، ستكون تمامًا كما الذي أراد بعد الجهد تفسير الماء بالماء. كم أطروحة وكم دراسة وكم معالجة فكرية كتبها أصحاب الخبرة والفكر في هذا الرجل الذي لا يتسع رأسه لكل ما فيه، فيُخرجها هو ولا يتبرأ منها، ويتلقفها الأتباع يفسّرونها ويؤيدونها، والمعارضون ليشرّحوها، وليخرجوا منها كمّ التحوّل ولزاجة الثابت. يريد أدونيس مراجعة التراث العربي بشمولية، وها نحن اليوم نجد أنفسنا بحاجة إلى مراجعات في كل الميادين… علينا مراجعة أسسنا كلها، في الفكر والسياسة والاقتصاد والحكم والدين ومفهوم العلاقة مع الله، وفي كل شيء قاله وفكّر فيه، وما لم يقله خفرًا أو حذرًا، سنعيد التفكير والتقييم لنستكشف التحوّل المطلوب والضروري لهذا الثابت المقدّس في العقول الصدئة.
ما زال أدونيس، منذ قرن من الزمان، يقول ويتوقّع، ثم يشهد على صحة ما قال وسلامة المتوقّع، وهذه فرصة لم يحظَ بها كاتب ولا فيلسوف. هو يرى إنصافه بنفسه، فلقد أنصفته الفلسفة، وأنصفته الأحداث، وأنصفته الأقلام، حتى الذين ما رأوا فيه ما يريدونه أن يكون اقتنعوا، سرًّا وعلانية، بأنه الرجل الذي كان وما زال على حق. فالعالم، اليوم، انفتح واقترب وانضم إلى بعضه، وتمازجت الحضارات والثقافات، واقتربت الأمم واللغات، بل سكن العالم كله في غرفة صغيرة، ولم يعد في هذا الزمن مسافة فاصلة أو أبعاد. يشاهد الفيلسوف أفكاره ودعوته وعقيدته تتجسّد كلها بكل بساطة وانسيابية، فيطمئن الى أن الحياة رأته جيدًا وبوضوح. ولم يعد في داخله أي تساؤل “ماذا سيقولون عني غدًا”؟ هو رأى الـ “غدًا” هذه بأم العين وأم الفكر وأم التلافيف أيضًا.
ماذا يريد بعد؟ وما الذي ينتظره أدونيس بعد؟ ستقرأ ذلك بين السطور، فتكتشف أنه ما زال يريد كل شيء، ولم يكتف من أي شيء. ما زال الفكر واضحًا نشِطًا، يفكّر ويكتب ويترجم. وما لم يكتبه بالقلم، يرسمه بالريشة والألوان. وفي مرسمه اليوم، يتابع رسم فكره وعجقة الأفكار والأحاسيس بألوان من حبر وزيت وماء…
أدونيس فكرة ، فلسفة، عقيدة ، رؤية ورؤيا … كبرت ونمت… رفضت الاستبداد، وظلّت ترفضه، وعلى الرغم من التغيير الأوليّ، فنحن ما زلنا نرى فيه الفكرة التي رفضت وسعت، وما أرادت إلا ألا نصل إلى ما وصلنا إليه.
هل قال كل شيء؟ وهل قال شيئًا بعد؟ سنفهمه… ولو بعد حين!