العدد السادس

حوار مع أدونيس

شادي منصور  ـ  عبد الحليم حمود

حاورناه بأكثر من شكل، في أكثر من مجال، عن سورية وتحوّلاتها، ومسار العرب، والحضور الإسلامي في أوروبّا، ودور المثقّف، وتشظيّات الهويّة. أدونيس قدّم لنا إجابات مباشرة، وبعضها مكتوب بخطّ يده، حيث تشكّل الحوار على مراحل، وفي الحالات كلّها كان أدونيس جرّاحًا يحمل مشرطاً، يستخدمه بلا قفّازات.

على العموم كانت دائرة أدونيس أكثر اتّساعاً في هذا الحوار، حيث بلغ مبضعه العظم في جسد مُلتبس التشخيص بين الموت والحياة.

 

 

ـ نعلم أنّ الواجهة الحضاريّة لكلّ أمّة تستبطن دوافع مصلحيّة، وغايات ربحيّة مغلَّفة بالأحجار الكريمة المتمثّلة بالفنون، والاختراعات، والبطولات، والإنجازات، والأناشيد. كيف يشخّص أدونيس حالة العرب والمسلمين؟

أعتقد أنّ التجارةَ عنصر تكوينيٌ في هويّة العرب المسلمين – حياةً وفكرًا، وليست السياسة تبعًا لذلك إلا مشروعًا اقتصاديًّا. هيمنة التجارة تقتضي إذًا بالنسبة إلى السلطة الوقوف إلى جانب العرب والعمل على ترسيخ هذه الهيمنة. إذ لا تجارة بدونه. وهي هيمنة تقتضي بين حين وآخر إشعال حروب محلّية مدمّرة باسم الديموقراطيّة، مثلًا. ما أشقاكِ أيّتها الدّيموقراطيّة. وكم كنت شاعرًا بسيطًا يا أفلاطون!

«الوحدة» بين الولايات المتّحدة الأميركيّة ودول الاتحاد الأوروبيّ هي الأخرى مشروعٌ تجاريّ – اقتصاديّ ذو أهدافٍ سياسيّة. الهدف الأوّل الوقوف في وجه الصّين، مرورًا بعزل روسيا. ويرى بعد أنصار هذه الوحدة أنّ الدّول الأوروبيّة إذا لم تتعاون مع الولايات المتّحدة في ميادين البحوث المختلفة، وفي مشروعات النموّ وخططه، وقضايا الاستهلاك وتمويل المشروعات المتنوّعة المرتبطة بهذه المجالات، فإنّها سوف تتراجع في جميع المجالات، أمام دول الشّرق (الصّين والهند وحلفائهما)، حيث تتفوّق هذه الدّول في ميادين الابتكارات والتصنيع في مختلف أشكاله وأنواعه، إضافة إلى الثروات والمداخيل. وهذا كلّه يؤدّي إلى تفوّقها عسكريًّا. هكذا لا بُدًّ في نظر القادة الأوروبيّين من تعميق الوحدة بين أوروبا والولايات المتّحدة الأميركيّة على جميع الأصعدة. وعقولهم، بإنجازاتهم، وبما يملكون وبما يحلمون.

الإنسان العربي المسلم الذي يشتري بدولارٍ أو أكثر سيكون بيعه بِأَقَلَّ مِن دولارٍ سَهْلًا جدًّا، ومربحًا جدًّا. وسوف يكون مثله نوعًا من المتعة وَاللَّهْو في الهواء الطَّلْق وتحت راية التّديّن، كما يحدث اليوم.

كلّا، ليس للإسلام، العربيّ على الأقل، مستقبل، على مستوى الحضارة والإبداع الحضاريّ. لكنه سيظلّ قائمًا في أنظمةٍ متعفنّة، وفي مُؤَسّساتٍ أكثر تعفّنًا، وفي ممارساتٍ مهينة للإنسان عقلًا وفكرًا وحياةً. هكذا سيظل قائمًا أمثولة وأضحوكة في الآن ذاته للعالم كلّه. وهذا ما يريده الحلف الأميركيّ – الأوروبيّ. أن يظلّ المسلمون العرب غارقين في همومهم المنعزلة كليًّا عن الإنسانِ وعن الحاضر البشريّ الخَلّاق. أن يظلّوا غارقين في وقاحة الاستهلاك وفي نزاعاتهم المذهبيّة – القبليّة. أن يظلّوا، تبعًا لذلك، في معزل عن التحوّلات الكونيّة الكبرى، المغيّرة والمحرّرة – أدوات مجرّد أدوات، ومساحات جغرافيّة غنيّة وواسعة. وعلينا جميعاً أن نسأل الخالق: غفرانك أيّها الخالق هل أنت حقًا «لَسْتَ بظلّام للعبيد»؟ هذا ما يفرضه علينا الواقع الإسلامي العربي.

لكن ماذا عنك أنت كشاعر ومفكّر، ألستَ نتاجاً طبيعيّاً لهذا المشروع الكبير؟ دعنا نوغل معك أكثر في عمليّة الحفر في الكينونة العربيّة ـ الإسلاميّة.

في الإسلام وبه، نشأتُ، وتعلّمت. وبهِ وفيهِ، قرأت ورأيتُ وسمعت وفكّرت وسلكت. وبهذا كلّه اعْتَبَرْتُ، بدءًا من تحوّلهِ إلى نظامٍ سُمّي الخلافة، ونبيه لم يُوضَعْ في مَثواه الأخير. وتأمّلت كيف كانت هذه الخلافة خِلافيّة، في مستوى الجوهر، وكيف كانت انشقاقًا في مستوى الجوهر أيضًا:

– عودة القبليّة.

– طمس القبائل جميعًا، والتمركز حول قبيلة قريش، وحدها.

– انحلال قريش إلى فَرْعين عدويّن متحاربين، حَتّى القَتْل ونَهْشِ الأكباد: الهاشميّة، والسفيانيّة.

– الحرب الآكلة – حرب الإبادة بين هذين الفرعين، وانتصار السفيانيّة.

وقرأت كيف هيمَنت على الحياة الإسلاميّة الأولى أشكال العنف، قتلاً واغتصابًا، إضافة إلى فتوحات أو غزوات السَّبْي، والنّهب والإبادة، وبعضها كان موضع اعتزاز وابتزاز: غزوات النبي نفسه وكيف كان يرث الابن، أيّا كان، أبَاهُ، أَيًا كان. وكيف أمتَدّ هذا الشّقاء الكينونيّ، باسم الإسلام ويمتدّ حتّى الآن، أي حوالي أربعة عشر قرنًا، بشكل أو آخر، قليلًا أو كثيرًا، في جميع أنحاء العالم الإسلاميّ – مُتوّجًّه بأبشع ما عرفه تاريخ الإنسانِ في العالم كلّه: مآثر صلاح الدّين الأيوبي في مصر الفاطميّة وإنجازات ما سمّي بالربيع العربي, فتكًا وتدميرًا. وأعرف الآن أنّ هذا كلّه ليس إلّا عالمًا لا يصلح إلّا للانقراض، ما أشقى  هذه الأرض العظيمة، التي خلقت العالم: أرض الفراعنة، و السومريّين والبابليين والآشوريّين والفينيقيّين، خَلّاقي العالم وها هي اليوم تتفرّد بعبقريّة الطّغيان في الداخل, والتبعيّة والخضوع لكلّ ما هو أجنبيّ.

– الدول بمعناها الحديث نتيجة لحروب واتفاقيّات إجباريّة أو تسوويّة. كيف تنظر إلى بلدان المنطقة، خاصّة تلك المُطلّة على البحر الأبيض المتوسّط؟

بين بلدان البحر الأبيض المتوسّط شراكة ثقافيّة متنوّعة، منذ نشوء الأبجديّة في ضفافه

المشرقيّة. وهي، بعامّة، شراكة رؤيةٍ منفتحة وخلّاقة ومتميّزة، للإنسان والحياة والعالم. وفي

أساس هذه الشراكة، العمل الخلّاق الذي أنجزته الترجمة الخلّاقة. في ضوء هذه الشراكة،

أعطيت للعالم صورة جديدة، وللإنسان والحياة معنىً جديد.

في هذا كلّه، كان الشعر البعد الأكثر تأصّلًا، منذ تجلّياته الأولى في الأسطورة ومن ثمّ في

الفنون التشكيليّة، وفنون الغناء والموسيقى والرقص والنحت والهندسة المعماريّة.

ولأن الشعر كان ينبجس من شراكةٍ إنسانيّة أخرى، أسمّيها شراكة الفرادات. أذكّر بها استنادًا

إلى بعض الأمثلة التي يعيشها كلٌّ منّا. الأخَوان اللذان يجيئان من رحم واحدة، لا يتشاركان في

الحلم، أو في المخيّلة، أو في عالم الجسد، وإن تشاركا في شؤون العلم والثقافة. هذا العالم الذي

تكوّنه هذه الفرادات هو عالم الشعر. وطبيعي إذًا ألّا يكون الشعر سياسيًّا أو أيديولوجيًّا، وألّا

يكون أداةً.

ولأنّ كان الشعر خطاب الفرادة، فذلك يعني أنّه خطاب الإنسان، بوصفه إنسانًا: الإنسان

الذي هو مركز الكون، وحوله وباسمهِ وفعله تنشأ الحضارة، ويُبنى العالمُ.

هكذا يبدو الشعر كأنّه نوعٌ آخر من المعجز البشري، يمنح الإنسان الثقة بنفسه، وبالعالم

الذي يعيش فيه، وبالمستقبل الذي يتّجه أو يتطلّع إليه. تمامًا كمثل الحبّ. خصوصًا أنّ الشعر

يخاطب الطّاقة الجوهريّة في الإنسان، كمثل ما يفعل الحبّ – الطّاقة التي يشترك فيها البشر،

جميعًا، على اختلاف لغاتهم وانتماءاتهم.

هذا المعجز يتيح لي أن أرى في حوض المتوسّط وبلدانه، وبخاصّة في إيطاليا الرومانيّة وفي  إسبانيا، نوعًا من العلاقة ترتبط بالحلم والمخيّلة، بالذاكرة والرغبة. لهذا صار المتوسّط، وإسبانيا في قلبه، لغةً ثانية لكثيرٍ من الشعراء، أو امتدادًا آخر للغتهم. صارَ نصًّا أصليًا وشاملًا، يسكن مخيّلاتهم وأفكارهم.

هذا البحر الإبداعيّ الذي يوحّد بين الإنسان والإنسان انفتاحٌ يتجدّد بلا نهاية، فيما وراء

السّياسة، وفيما يُفلتُ من كلّ تحديد أيديولوجي.

في ضوء ذلك أحاول شخصيًا أن أوحّد في شعري بين الكتابة والمكان، وبين الصوّت

والزمان، كما لو أنّني أقرن بين صخور المتوسّط وأعاصيره، وبين شمسه والفضاء الذي

ترسمه. الخيال مادّة، والمادّة خيالٌ. إنّه عالمٌ يخلقني، باستمرار، فيما يُخلَقُ هو نفسه باستمرار.

وهو، بفعل الشعر عالم – مستقبل، أكثر منه عالمٌ – ماضٍ. ليس عالمًا مرآةً نعود بها إلى

الطفولة، وإنما هو بالأحرى طاقة تحرّكنا إلى الأمام نحو ما يجيء، نحو ما سنكون.

والشعر، في هذا الأفق، ليس جنّة ضائعة كما يقال أو صورة عن العصر الذهبيّ الزائل،

إنّه على العكس، الضوء الذي ينير طريقنا نحو المجهولات التي نواجهها. إنّه الحضور المبدع

الذي يشعّ كأنّه المستقبل أبدًا.

ـ هل لا تزال الآداب والفنون والفلسفات، براقاً يمكن امتطاءه لتتحقّق التجارب والمغامرات التي تعطي الحياة معنىً يفوق السياقات الفيزيائيّة؟

إذا كانت الفلسفة تفقد اليوم قدرتها على تقديم أجوبةٍ عن الأسئلة الإنسانيّة الكبرى، وإذا

كانت العلوم والتقنيّات، في مختلف أبعادها، تعجز عن فتح آفاقٍ خلّاقةٍ للبحث عن حلول

ومخارج، فإنّنا نجد في الفنّ، بعامّةٍ، وفي الشعر بخاصّة ما يمكن أن يضيئنا في البحث عن

معنى جديد للإنسان، وعن صورٍ جديدة لأفكاره وإبداعاته المختلفة. فالشعر بَصيرةٌ تخلق توازنًا بين الكائنات والأشياء، وتضيء الإنسانَ في عمله وفكره، نحو الأجمل والأفضل. ذلك أنه، بطبيعته ذاتها، يعيد باستمرارٍ تجديد العلاقات بين الكلمات والأشياء، وبين الإنسان والعالم.

واللّغة الشعريّة هنا، هي لغة مُساءلةٍ، لا لغة تطابقٍ؛ ليست لغة وصفٍ، وإنّما هي لغة كشف.

طبيعيٌّ أنّ الشعر لا يقدر أن ينتج أحداثًا تغيّر الأوضاعَ القائمة، وإنما يولّد وعيًا جديدًا،

علاقات جديدة، ومعرفةً جديدةً تتيح للقارئ أن يرى العالم وأشياءه وأحداثه بشكلٍ مختلف، وأن

يضعَ، انطلاقًا من هذه الرّؤية، خططًا للتغيير العمليّ. وشَرْطُ هذا كلّه أن يكون الشعر نفسه

بدءًا: ألّا يكتفي بتمثّل الحاضر الرّاهن، بكلّ ما فيه، بل أن يتخطّى ذلك، فَينصت إلى هدير

المكبوتات والمقموعات والمحرّمات في الحياة وفي الإنسان، وفي التّاريخ، وفي المعوقات

كلّها: في حركة ارتقاءٍ متواصلٍ، وكشفٍ متواصل. ولهذا لا بُدّ من أن تكون لغته في مستوى

الوجود، لا مستوى الموجودات. فهذه تشير إلى الأشياء – الصور، والوجود يشير إلى الكينونة-

المعنى. والحقيقة، إذًا، ليست في التطابق والتوافق مع الأشياء-الصور، وإنما هي، بالأحرى،

في تمزيق الحُجُب، وفي المساءلة، وفي الكشف.

لنفترض، في هذا الضوء، أنّنا نتبنّى معًا، مصطلحًا جديدًا هو جغرافيّة الشعر، أو

«الجيوشعريّة»، وفي ظنّي أنّ أصدقاء في الشعر سبقونا إلى استخدامه، فإنّ هذا المصطلح

سيضيئنا في التّوكيد على أنّ الشِّعْرَ كمثل الحبِّ عابرٌ للّغات والثقافات والإثنيات، ذلك أنّ

الإنسان نفسَه خُلق شاعرًا كما خُلق عاشقًا – أعني خُلق مُغيّرًا. أعني أنّه، بطبيعته ذاتها،

مُواطنٌ كونيّ كالهواء والماء والضّوء.

وهذا كلّه يضيئنا في القول إنّ قصيدةً تكتب في بدايات الأزمنة التاريخية، تتخطّى معايير

التقدّم والتخلّف، وإنّها قد تكون أكثر جماليّة، وأعمق إنسانيّة من قصيدة تكتب في القرن الحادي

والعشرين. فالشعر يحيا فيما وراء الأزمنة والأمكنة، والثقافات، في زمانٍ إنسانيّ مشترك،

ومكان إنسانيّ مشترك، وثقافةٍ إنسانيّة مشتركة.

 ـ هل تستشعر خطراً ما على سورية كمركز، ومقام لطالما حمل عمقاً سياسيّاً وثقافيّاً؟

 يمكن محو الشجر والحجر والبشر، بطريقة أو بأخرى. لكن، كيف يُمْحى التُّرَاب؟

سورية ترابٌ كونيّ. وطنٌ آخر داخلَ كلّ وطنٍ أبجديّ.

لا يمكن محو سورية، حتّى لو مُحيت الأبجدّية نفسها.

المرحلة الإسلاميّة، باستثناء الفترة الأمويّة، لم تكن في مستوى سورية – رؤيةً وإبداعًا،

ومشاركةً في بناء العالم. خصوصًا أَنها بقيت مجرّد سلطة، مجرّد نظام قائمٍ عمقيًّا وعمليًّا، على ثقافة «الملل والنّحل» القبائل والطّوائف والمذاهب.

وفي بغداد، هَيمن الأفق الفارسيّ. ومصر الإسلاميّة لم تكن في مستوى مصر الفرعونيّة.

مصر الفرعونيّة بُعْدٌ أساسٌ في الحضارة. على مستوى الكون.

مصر – المسلمين؟ ماذا فعلت. أمسِ، وماذا تفعل الآن؟

ـ إذاً أزمتنا لا تقف عند سورية أو ليبيا أو اليمن، بل هناك خلل في بنيّة البلدان العربيّة، حكومات وشعوباً .

  • باختصار: المسلمون العرب فشلوا حَتّى في تأسيس جامِعَةٍ واحدة. ومركز واحد للبحوث المعرفيّة، وبخاصّة العلميّة ولا نتحدّث عن الصِّنَاعَة في شَتّى أبعادها.

إنهم تابعون، مُستهلكون: أدواتٌ وثرَواتٌ يَبْرَعُ الأجانب السّادة في استخدامها أولًا في

تدمير وجودهم، أعني وجود العرب  حَتّى ليبدو لمن يرى حقًّا كأنّ العرب لم يُخلقوا إلّا لكي يُدَمِّر بعضهم بَعضًا.

وها هم، اليوم، بعد حوالي خمسة عشر قرنًا، كأنّهم يعيشون ويفكّرون في القرن الأوّل.

ومعظم الكفاءات السوريّة والعربيّة الفريدة، في جميع الميادين، تعيش في الخارج.

وتشارك في بناء العالم، باسم هذا الخارج.

ـ هل نستطيع الرهان على المواطن العربي؟

لا قيمة للفرد المسلم العربي عمليًا  إلا في ضوء موقفه من السّلطة: إن كان ضِدُّهَا، طردته أو

سجنته. وإن كان معها استعبدته وأخضعته لسياستها. وطن لا حريّة فيه: ليس إلا ركامًا من

القيود والسّجُون: تلك هي البلدان الإسلاميّة العربيّة.

 لا أناقش موظّفي الأنظمة ودعاتها أولئك الذين «يُحرّفون الكَلِمَ عن مواضعه» (سورة النساء، الآية 46)، أو يخرجونه من سياقه. لا أناقش أشخاصًا يخونون لغتهم. هؤلاء يخونون أنفسهم أولًا: كيف تناقش خائنًا لنفسهِ ذاتِها؟

كلا، لا أناقش كاتبًا يؤسّس كتابته على خيانة لغته وخيانة نفسه.

ـ من أين تبدأ عمليّة التغيير؟

– تغيير السّلطة وحدها أو النظام السياسي  لا معنى له إلا إذا اقترن بمشروع لتغيير المجتمع نحو الأفضل – في مزيد من الحريّة، ومن تعميق البناء الاجتماعي على القيم المدنيّة الإنسانيّة المشتركة، في معزل كامل عن الدّين. وأقترح على المتديّنين أن يستضيئوا بكتابهم المقدّس، في معزلٍ عن فِقْه السُّلطة وفقهائِها:

– «ما ننسخ من آية أو نُنْسِها نأتِ بخير منها أو مِثلِها. (البقرة، آية 106)

– إنّك لا تهدي من أحببت، ولكن الله يهدي من يشاء. (القصص، الآية 56)

فإذا كان عند الله نفسه، حسَنٌ وأحسن، فبالأحرى أن تكون هذه القاعدة إنسانيّة عامّة.

وإذا كان النبيّ نفسه لا يهدي حَتّى من يحبّ، فبأيّ حَقٍّ يعمل المسلم لفرض إيمانه على

الآخرين؟

– تسييس الدّين نَوّعٌ من تحويل الشمس إلى فُرْن: تشويهٌ لا للدين وحده، وإنّما للإنسان

ذاته، وللألوهة ذاتها.

الله حرّية مطلقة – والإيمان به يجب أن يقوم على الحريّة المطلقة. دون ذلك يكون الإنسان

عبدًا: ترفض العظمة الإلّهية أن يؤمن بها إلّا البَشَرٌ الأحرار.

الإيمان بها قَسْرًا لا يغنيها: على العكس، يُفقّرها. لأنّه إيمانْ عَبْدٌ، لا إيمانْ حرٌّ.

الثورة الإسلاميّة حتّى اليوم تتمثّل في الخروج كليًّا من عالم الفقه. الفقه حَوّل الدين إلى

أمرٍ ونهي، ومحا فضاءاته الروحيّة، الخَلّاقة، العالية التي حاول المتصوّفون أن يؤسّسوا لها.

حين أقرأ، مثلًا، قول الإمام الشافعي: «مَنْ قال برأيه في القرآن، فهو مخطئ وإن

أصاب»، أقول: هذا الكلام من هذا الفقيه الإمام، حجابْ على الْوَحْي وبهائه – حجابٌ على

الإنسان نفسه، وحجابٌ قبل كلّ شيء، على الله.

سلطة إسلاميّة حُرّة لا تستمدّ حريّتها من الفقه، وإنّما تستمدّها من الوَحْي ذاته: من الكتاب

الإلهي.

المسلم يرى الله بالله نفسه – وليس بالوسائطِ، أيًّا كانت.

ـ مع ذلك تبدو الوقائع مخيّبة للآمال. ما تنطق به ميكروفونيّات المساجد وبعض الفضائيّات، والتيّارات الدعويّة، والفصائل الأصوليّة، نماذج لا تبشّر بالخير.

  • نعم «لا إكراه في الدين»، تكاد أن تصبح: «لا إكراهَ إلّا في الدّين». ما رجوته وأرجوه، إذا كان الدّين أعظم وأعلى ما يؤمن به الإنسان، لا يُحرّره، وإنما يقيدّه، تبْعًا لما يراه الفقهاء، فماذا يمكن إذًا، أن يحرّره؟

ماذا فعلت السّلطة الإسلاميّة، وبخاصّةٍ منذ نشوء الخلافة العثمانيّة، سياسيًّا، واجتماعيًّا،

وثقافيًّا، لإرساء حقوق الإنسان في العمل، والفكر، والفنّ، كما علّمتهم النبوّة الإسلاميّة ذاتُها؟

خصوصًا في كلّ ما يتعلّق بالمرأة ذاتِها – والسيدة عائشة هي النمّوذج الإسلامي الأوّل لحرّية

المرأة؟ والخليفة عمر بن الخطاب هو النموذج الإسلامي الأوّل لحرية الإنسان؟ أليس هو القائل، كما تؤكّد الرواية: «متى استعبدتم النّاسَ وقد ولدتهم أمّهاتهم أحرارًا»؟

وعلى كلّ مسلم اليوم، أن يقرأ من جديد سيرة الخليفة عمر بن الخطّاب.

كانت الممارسة، في السلطة الإسلاميّة، بدءًا من الخلافة العثمانيّة، على الأخصّ، تنهض

على البَطْش والقتل، والجَهْل، وعلى التبعيّة العمياء للآخر الأجنبيّ. وَعَلَى إقصاء الخَلّاقين

وأصحاب المواهب المتنوّعة الذين لا يرون رأي السّلطة؟

ماذا فعلت السلطة في ميدان الاقتصاد غير الاحتكار والاستئثار، والاتّجار؟

ماذا فعلت في ميدان الثقافة غير تعميق التحزّب الذي لم يكن إلّا شكلًا «مدنيًا» من التديّن، ومن التمسّك بمفهوماتٍ وقضايا فقدت دلالاتها في ضوء الحاضر، وتحوّلت إلى أدواتٍ هائلة

للتوظيف الأعمى – في «ضوء» الانتماء السياسيّ – الأيديولوجي؟

– ماذا فعلت للثروة الحضاريّة في سورية ومصر والعراق، تمثيلًا لا حصرًا، للثروة الحضاريّة التي تأسّست عليها ثقافات العالم كلّه؟

هذا كلّه يعني، موضوعيًا، غياب الإنسان – يعني أنّ التّاريخ عند المسلمين العرب، ويُكتَبُ

بمشيئة الغيب ولا يُقرأ إلا بعين الغيب. وها هو العربي المسلم، بين تلك اليد الكاتبة، وهذه

العين القارئة، إنّما هو سجين – سَجّان: نموذج لإنسان لا شريك له، مخلوقٍ على صورة الله –

ويعيش في أسفل سافلين، في هذا العالم الذي ضاقت به الأرض، وبدأ «يغزو» – علوَّا، في ما

كان مُلْكًا خاصًّا لصاحب السّماواتِ، وحده – «لا شريك له»!

آوه – المكان! سورية!

ذلك المكان الذي أعتزّ بعجزي عن الفرار منه! وكلّما حاولت أن أكتب عنه، تثور الأبجدّية

نفسها عَليَّ خجلًا منه وغصبًا عليه. لكن، سُرعان ما تهدأ. تربّت على كتفيّ، وتهمس في أذنيّ:

أحبُّ أن أرَى رأسكَ بين كتفيكَ، وأن أرافقه إلى أن تقبض عليك الشيخوخة، وتُسلمك خطوة

خطوةً إلى الموت – نارِكَ الرّجيمةِ – الرَّحيمة!

ـ حسناً، أدونيس كيف يقارب هذا الواقع، وما هي المسؤوليّة التي يتحملّها كمواطن فرد، عليه جزء من أمانة البحث والسعي نحو التغيير؟

أتذكّرُ، بوصفي درستُ الفلسفة في الجامعة السوريّة، أنّني طرحتُ على نفسي منذ تخرجي

الأسئلة الثلاثة التي طرحها كانط في كتابه «نقد العقل المحض»: ماذا أقدر أن أعرف؟ ماذا

عَليَّ أن أفعل؟ بماذا آمل؟ وأتذكّر أنّني ساءلتُ نفسي: هل لديّ القدرة على أن أجيب بحرّية،

وأن أعيش وأفكّر وأكتب، وفقًا لهذه الأجوبة؟ – وبخاصّة، في كلّ ما يتّصل بهذه القضايا:

المعرفة، العمل، الأمل؟

المعرفة؟ هي، جوهريًّا، مُسيّجَة و«مختومة» بتأويلٍ شرعي فقهي للدين؛ ويمكن القول

عنها إنّها، جوهريًّا، دينيّة. وما الدّين هنا؟ إنّه تعاليم ومعتقدات، فِقْهٌ وشَرْعٌ، سلطةْ وقوانين.

العمل؟ لا أستطيع أن أفعلَ ما يَنْهى عنه الدّين، أي الفقه والشّرع.

الأمل؟ هو ما يَعِدُ به الفقه والشَّرع أي السّلطة، عمليًّا، كيف تكون الحياة، إذًا؟.

منذ ابتكار الأبجديّة، تحوّلت سوريّة بالنسبة إليّ مكانٍ مَلْعَبٍ. كأنّ تاريخها، تاريخ

علاقاتها مع العالم، ترجمة مسبقة لما يقوله واقعها الراهن.

وها هي انظروا إليها: إنّها «شَمُسٍ كونيّة»: كلٌّ ينظر إليها، إمّا بوصفها «مُلَكًا» له، وإمّا

بوصفها مشروعًا لتملّكها: منذ اليونان، منذ الروّمان، منذ آل عثمان، منذ النظام الأمريكي الذي قام على استئصال شعب بكامله في قارّة بكاملها.

كانت الخلافة الأمويّة المرحلة الأكثر تألّقًا، وانفتاحًا في تاريخها الإسلاميّ: بل

تمثّلني المرحلة الأخيرة في تاريخها العظيم خصوصًا إنّ الخلافة العباسيّة كانت أقرب إلى

الأفق الفارسي الحضاريّ خِلافًا للخلافة الأمويّة التي كانت عربيّة سوريّة بيزنطيّة.

ـ ..وإذا وسَّعتَ دائرة أسئلتك، متخطّياً ذاتك نحو “نحن” كجماعة؟

سؤالان يفترضان أسئلة أخرى:

1 – هل خلقنا، نحن المسلمين، لغاية واحدة: أن يقتل بعضنا بعضًا؟.

2 – هل أعطيت للسوريين السّلطة على بلادهم، بشرط أساس: أن تكون بلادهم لغيرهم؟.

3 – «مَن أنَا»؟ سوري أم عربي؟ مسلم؟ مسيحي؟ سؤال مهما كان جوابه، يظلّ سؤالًا.

ولكي يقلّ غموضه أو لكي يزول لا بُدَّ من أن يقرن بسؤال آخر: من يحيا في هذه الأرض؟

من كان، أمس؟ من هو الآن! من سيكون غدًا؟ هل سيكون ناسخًا أم منسوخًا وكيف؟

– هل يمكن القول اجتماعيًّا، بوجود «شعبٍ سوريّ»؟

– سؤال أساسي، وطبيعيّ في ظِلّ الأوضاع الرّاهنة.

أشير، أوّلًا، إلى أنّ لفظة «شعب»، بالمعنى السياسيّ، مستعارةً من الثقافة الغربيّة. وهي

تعني مجموعةً من بشر تقيم على أرضٍ واحدة، وتخضع لقوانين واحدة، وواجباتٍ واحدة،

وتتمتّع بحقوقٍ واحدة، وتخضع لتربية مدرسيةّ، واحدة، ولثقافة واحدة. ولكلّ فردٍ حرّية في أن

يؤمن بالدين الذي يشاء، أو ألّا يؤمن – توكيدًا على أنّ المجتمع لا يتأسّس على الدّين، بل إنّ

تأسيسه على الدّين إفساد له.

ـ ما هو تصوّرك عن البدائل، إذا ما بنيت تصورّك عن المشاريع التي نشأت منذ الربيع العربي، وما قبله، وبعده، تحديداً الحالة السوريّة التي لم تنتهِ فصولها حتّى الآن؟

  يتأسّس المجتمع بعقد اجتماعي يعُلن مجتمعًا مَدنيًّا، حقوقًا وواجبات، لكن، استنادًا

إلى التجربة التّاريخيّة، بدءًا من فتح المسلمين سورية، نَرَى أَنَّ هذا المفهوم لا ينطبق عليها

أبدًا. عِلْمًا أنّ الخلافة الأمويّة، لم تفرض الدّين على الآخرين، لا تبشيرًا ولا إدارةً ولا سياسة،

بل إنّ معظم الخلفاء، أتاحوا لسكان دمشق الأصليّين المشاركة الكاملة في بناء الدّولة.

على العكس، ينطبق على سورية وعلى كل بلدٍ عربيّ إسلامي، مفهوم «الأمّة»

و«الجماعة»، و«الملّة» و«المذهب»، و«الطّائفة».

هناك عالَمٌ يقوم البشر فيه بالواجبات نفسها، لكن ليست لهم «الحقوق» نفسها.

ولئن كانت عبارة «شعب سوري»، لا مكان لها، أو لا وجودَ لها في التجربة الحيَة، فماذا

نقول عن عبارة «شعب عربيّ»؟

هذه العبارة وأمثالها مستعارة، على المستوى اللفظيّ، من ثقافة الاستعمار والتبعيّة. وهذا

ما يمكن قوله في مستويات أخرى عن عبارات أخرى كمثل: الحرّية، والديموقراطيّة، وكمثل

«الفلسفة»، و«العلم»، و«المجتمع» و«الحداثة»، تمثيلًا، لا حصرًا.

هكذا لا نرى، على مستوى التجربة الحيّة، لا ديموقراطيّة، ولا حرّية، ولا فلسفة: وأين

هذه الأخيرة، الأكثر بساطةً، في البلدان العربية: أين الفيلسوف الذي يجرؤ أن يطرح سؤالًا

جذريًّا واحدًا على “الوحي” الذي هو سيّد حياتهِ وسيّد مصيره؟

لا نزال نعيش في نظام «الملل والنّحِلَ» – ويبدو أنّنا حَتَّى في «الثورة»، لا نريدُ إلّا أن

نحيي هذا النّظام! هل نردّد الآية الكريمة: «فسبحان من يُحيي العظام وهي رميم»! (سورة

يس: 36/78)

ـ هل يدعو أدونيس للقطيعة مع الماضي، والجرأة بإجراء جراحة في جسد الأمّة، كآخر الفرص للخلاص؟

  • يعيش الإسلام، بوصفه دينًا وثقافةً معًا، مأزقًا تاريخيًّا لم يعرفه حَتّى في ظُلماتِ الخلافة

العثمانيّة. لا خروجَ من هذا المأزق الذي يفرغ من كلّ بُعدٍ روحيّ أو فكريّ خلّاق، إلا بقراءة

جديدةٍ، غير فقهيّة، ترقى في عمقها وآفاقها في ضوء التجربة التّاريخية، وعلى الأخص

في ضوء مفهوم «الناسخ» و«المنسوخ» الذي وضعه الوحي نفسه، في تجاوز كامل للكتب

الفقهيّة، والتي أَصبحت جزءًا من الماضي، تخطّتها التجربة التّاريخيّة الحيّة.

دون ذلك سيبقى المسلمون، مجرّد أداة، مجرّد سلطةٍ، مجرَّد كمّ بشريٌ يعيش على هامش الإبداعات الكونيّة. ويقف أعداؤهم إلى جانبهم في إرادة الإبقاء على هذا الإسلام، وفي إرادة الحفاظ عليه والدفاع عن استمراره، في حين ينطلقُ قريناه أو أخواه والآخران: اليهوديّة والمسيحيّة في آفاق المعرفة، علمًا وتقنية، فكرًا وفَنًّا، بلا حدودٍ، بلا رقابة، وبلا شَرْعٍ أو فقه، على المستوى الجَمْعيّ – مُجتمعًا ودولةً. نعم لا يستطيع الغرب أن يرى إسلامًا في مستواه الثقافي الحضاريّ، لا يستطيع إلّا أن يراه «عاجزًا»، «متخلفًا»، «تابعًا». والعجب أن المسلمين “مُسلمي السلطة” راضون قابلون، طيّعون.

ـ أترانا لا نتعلّم من دروسنا، فيتحرّك التاريخ في بلادنا بشكل دائريّ؟

  • هكذا يتكرّر التاريخ  السفن التي ركبها المسلمون العرب، منذ الخلافة العثمانيّة وبعدها، طلبًا لِلنّجاة هي نفسها التي أغرقتهم. وهي نفسها السّفن في نماذجها الأولى التي رفضها المسيح نفسه.

ـ ماذا تقول عن ثقافة الاستهلاك، حيث تمّ اختراع أهداف غير ضروريّة، يسعى الجميع لتحقيقها كأنّها فردوسهم الأرضي؟

  • هذه فترة تاريخيّة تهيمن عليها الرّغبات والهموم الجماعيّة. وهي نفسها فترة الفنّ الذي

تُمليهِ وتُسيّره هذه الرّغبات وهذه الهموم، في مختلف مستوياته، سَرْدًا وتصويرًا وشعرًا. وهي

نفسها التي تتوّج الفنَّ خادِمًا أمينًا في السّاحات العامّة.

الجمهور هو الذي يختارُ أفقَ هذا الفنّ، وألوانَه، وألفاظه، وتراكيبه. فنُّ الأماكن العامّة. فَنّْ

لتلبية الحاجة اليوميّة. ولا يقتضي أيّ شكل من أشكال التأمل، أو البحث، أو التّساؤل.

– هل يمكن القول إنّ للمسلمين «نضالهم» الخاصّ؟

  • يمكن القول إنّه لا ينفصل عن تعاليمَ ذاتِ بُعْدِ ديني. تَعاليمُ فقهيّة غالبًا، راسخة في

الذاكرة، وفي قرارة القلب، ينقلها “الثوار” في كبد قُنْبلةٍ، أو أُخْتٍ غامضةٍ من أخواتِها.

كأنّ بين القَتْلِ وبينهم حِلْفًا مقدّسًا؟

مَنْ نسألُ، إن كنَّا لا نستطيع أَن نسألَ السمَّاء؟ ألهذا يتحوَّلُ المناضل إلى طائرةٍ من الورَقِ

تجرّها خيوطُ المُصادفات؟ ألهذا تمزّقه خريطتهُ نفسها؟

ألهذا يُقيم أبدًا في هبَاءِ الألفاظ؟

أنظر ما حدث للذين ماتوا ويموتون في البلدان العربيّة، في سبيل قضايا التحرّر، لا من

هيمنة الخارج وحده، بل من سلطة الداخل وطغيانه.

– هل تعيش شعورًا خاصًّا عندما تتذكّر البيت الذي ولدتَ فيه؟

البيتُ الذي وُلِدتُ فيه، وُلِد هو نفسه بين أشجارٍ كثيرةٍ ومتنوّعة. غيرَ أَنّه قَلَّما يتحدّث معها.

يفضّل الحديثَ مع الأجنحة. ربّما لِأنّه يخبّئ حُزنَه وفرحَهُ في خزائنِ الفضاءِ.

الحقول حول البيت تتبادَلُ الزّياراتِ كما يفعل الفلّاحون. وكانتِ الرّيح في الشتاء، عندما

تعبرُ أمامه، تنزلُ من عرَبتِها لكي تُسلّم على القنديل الذي يضيئه.

شجرة الصَّفْصافِ أمامَهُ مِئذنةٌ. والمؤذِّنُ الهواء.

لكن، عندما أتذكّر البيت الذي ولدت فيه، أتذكّرُ مباشرةً أمّي. أتذكّر، بعدما أتيح لي أن

أترك القرية إلى المدينة، وأدخل المدرسة، أنّها بعثت إليّ رسالةً، وهي التي لا تقرأ ولا تكتب.

تقول الرّسالة: «عندما سافرتَ صباحًا مع شروق الشّمس، وودّعتنَا أباكَ وأنا، كنتُ أشعرُ أَنّ

قَلْبي يقفز من صَدْري ويَسيرُ إلى جانبكَ. وفيما كنتَ تُديرُ وجهكَ إلى البحر، كانت الشّمس

تُرّبتُ بحنانٍ على كتفيك. كنتَ مبتهجًا، لكن كان يبدو على هيئتكَ شيءٌ من القلَقِ، لم أعرف

كيف أبدّده. اكتفيتُ بأن أقول لبيتنا أن يرافقكَ إلى ما وراءَ حدود القرية، وأن يودّعكَ، هامِسًا:

«الحياةُ، يا ابْنِي، كتابٌ اسْمهُ السَّفَر».

ـ نعود إلى أدونيس الشاعر، ما الغاية التي تحقّقها مع الطبعة الجديدة من أعمالك الشعريّة؟

كلّ ما لم أثبته في هذه الطبعة الجديدة من أعمالي الشعريّة الكاملة، أتخلّى عنه. إنّني

أعدّ كلّ ما كتبته وأكتبه نوعًا من التهيّؤ لما أحاول أن أحقّقه. وكما أنّ الشّخص لا يبقى فيه، من

حياته ذاتها، داخل نفسه ذاتها، إلّا ما يشكّل بنيتها العميقة، فبالأحرى ألا يبقى من نتاجه إلّا

ما يرتبط، جوهريًّا، بهذه البنية.

ثمّ إنّ العمل الشعري لا ينتهي. الآلةُ وحدها، تنتهي. وهو لا ينتهي، بمعنين: لا يكتملُ، من

جهة، ويظلّ، من جهة ثانية، مشروعًا.

إنّ وعيّ الشاعر لذاته لا يبدأ من التاريخ، أو من الماضي، بل يبدأ من ذاته نفسها. وذاته

في يقظة دائمة. ففي كلّ لحظة يعيش ويفكّر ويخلق كأنّما للمرّة الأولى. فهو لا يؤرّخ، بل

يستبق.

أثبتّ في هذه الطبعة قصيدتين لم تظهرا من قبل في مجموعة، هما: «أروادُ، يا أميرة

الوهم»، و«سمعته وفمه حجارةٌ». كذلك، أعدت قصيدة «مرثيّة الأيام الحاضرة» (التي نشرت

في مجلّة «شعر» بعنوان: «وحده، اليأس») إلى مكانها الطبيعي في مجموعة: «أوراق في

الرّيح»، شأن «مرثيّة القرن الأول»، اللّتين أضيفتا، بمصادفة ما، وربّما بسهو ما، إلى

«أغاني مهيار الدمشقي».

كانت «أرواد يا أميرة الوهم»، بداية تجربتي الكتابية شعرًا، بالنثر بدأتها سنة 1958

ونشرت جزءها الأول في مجلّة «شعر»، (عدد 10، السنة الثالثة، 1959).

ـ في مرّات سابقة عرفنا أنّك قد حذفت بعض القصائد من مجموعاتك الأولى. هل اشتغل مقصّك كذلك في هذه الطبعة؟

–  سيجد القارئ أنّني حذفتُ هنا نَصًّا، ونقّحت هنا نصًّا آخر. وقد يتساءل: ما السّبب؟

وربّما كان جوابه أنّه لا يشاطرني الرأي. حسنًا، قد يكون له الحقّ، لأنّه يُحدّدني من خارج، أمّا أنا فأحدّد نفسي، من داخل.

فنيًّا، يتعذّر أن يكون النصّ الشعريّ وثيقةً، في أيّة حال، ومن أيّة زاويةٍ نُظر إليه. إنّه

انفجار. وهو، لأنّه انفجار، يضلّ هو – مهما حذف منه، خصوصًا أنّ نَصًّا ما ليس، هو

كذلك، إلّا حلقةً في انفجارٍ أكبر: تجربة الشاعر. ولذلك فإنّ الحذف والتنقيح إنّما يتمّان لغايةٍ

واحدة: مَنْح النَّصّ مزيدًا من التوهّج، أعني مزيدًا من التعمّق والتأصّل.

ـ نعرف أنّك تعاني مع بعض النقاد من طرقهم في التصنيف، خاصّة أنّ الحداثة مُلتبسة التوصيف في بلادنا.

– حين نشرت قصيدة «هذا هو اسمي»، ظنّ بعضهم، وبينهم نقّادٌ وشعراء، أنّها نثر.

ولعلّ ذلك عائدٌ إلى أنّهم لم يروا فيها الشّكل المألوف، المشطّر، لقصيدة ما سُمّي بـ«الشعر

الحرّ» أو «شعر التّفعيلة».

تنبغي الإشارة هنا إلى أنّ القصيدة موزونةٌ بكاملها، لكنّها مدوّرة. لهذا يجب أن تُقرأ

محرّكةً ودون وَقْف، إلّا حيث الوقف الذي تفرضه القافية.

أمّا قصيدة «مقدّمة لتاريخ ملوك الطوائف» فهي مزيجٌ من الوزن والنّثر (مع غلبة

الوزن). كذلك قصيدتا: «أقاليم النهار واللّيل» و«تحوّلات العاشق» (مع غلبة النثر).

  – «هذا هو اسمي» العنوان الجديد لمجموعة «وقت بين الرماد والورد».

  – «المطابقات والأوائل» هو العنوان الجديد لمجموعة «كتاب القصائد الخمس تليها

المطابقات والأوائل».

ـ «الذّوق» – كيف يمكن تحديده؟

هناك نظرَيتان:

أ – «عقلانيّة»، هي النظرة الكلاسيكيّة، تربط الذّوق بجوهر ثابتٍ للجمال، بحيث لا يوجد

إلا ذوقان اثنان: جيّد، ورديءُ.

ب – نسبيّة: (الرومنطيقيّة) ترفض الرأي السابق: «مَنْ يقول لكَ: «إنّ شكلًا أجملَ من

شكلٍ آخَر»؟

ج – تاريخيًّا، تغيّرت الأذواق من مرحلَةٍ إلى مرحلة. (كيف تغيّر الذّوقُ عند العرب؟ (بدءًا

من المرحلة العربيّة التي سبقت نزول الوحي الدّيني الإسلامي).

د – هل الذوق مرتبطٌ بالطبيعة الإنسانيّة، وكيف تُحدّد في هذا الإطار؟ أم أنّه مرتبطٌ

بالثقافة وتغيّراتها؟

هـ – ما الذّوق في مَرْحلة ما قبل الوحي الدّيني الإسلامي؟

و – ما الذّوق في العصر الإسلامي الأوّل (موقف الوحي/ النبّوة).

ز – ما الذوق في العصر الأموي (جميل، عمر بن أبي ربيعة، ذو الرمّة، الخوارج،

الأحزاب).

ح – ما الذوق في العصر العبّاسي (غلبة المدينة – الحضارة: أبو النوّاس، أبو تمّام): رفض

القديم، لذّة الجديد.

ط – لذّة التحوّل الشامل.

  – أشير هنا إلى أنّ الذوق عند العرب، قبل الوحي الإسلامي : مرتبطٌ بما هو طبيعي

فغاية الأدب هي التعبير عن الحقيقة الإنسانيّة، التي لم تفسدها الأزياء الحياتيّة ولا البلاغة.

ولكن هذه الحقيقة يمكن أن تكون وحشيّة أو غريبة. وهذه لا ترضي الكلاسيكيّ، فهو

يعتقد بطبيعة إنسانيّة هذّبها العقل. الطبيعي الكلاسيكيّ مرتبط بالعقل.

الذوق هاجس توازن، وتهذيب أخلاقي.

والأسلوب الطبيعي ليس، لضرورة، الأكثر عفوّيةً. فالوصول إليه يمّر بالمهنة والعمل.

– والذوق الطبيعي، سواءٌ كان وليد رهافة الفكر، أو دقتّه، أو كان وليد الجمال المُقارن

للخير، لا يبدو فطريًّا إلّا لأنّه يوحي بأحكامٍ بديهيّة خالصة من كلّ بناءٍ منطقيّ.

وقد يرى بعضهم أنّ الذوق تعقُّل، وليس انفعالًا.

  مثلًا الذوق عند (عمر – و جميل) في العصر الأموي: مرتبط بما هو انفعاليٌ – قلبي. ردّة فعل ضدّ  ازدراء الغرائز. ارتبط الذوق هنا بالشخص: بطريقة الإحساس التابعة للجهاز العضوي عند الشخص. الذوق انفعال – قلب، لا عقل.

أكثر الناس رقةً ونعومة في طريقة إحساسهم، أكثرهم ذوقًا.

لم يعد الأسلوب الأفضل هو الأسلوب القائم على القاعدة، والاصطلاح، والوضوح، والدقّة

(التّنقيح)، بل أصبح الأسلوب القائم على العُنْف والحماسة والمفاجأة والحريّة.

وأخذ الإلهامُ يتقدّم على الثقافة، والحماسة على الرّزانة. يُضاف إليه بعد الثورة: الثورة غيّرت كلّ شيء: غاية الأدب، ودور الأديب، وطرائق التعبير.

  هل يمكن أن تُعطي انطباعك حول الحوار الثقافي الذي ساد ويسود الآن في الوسط

الثقافي العربي؟

– ربَما سيكون من الأفضل، ومن الضروري، أن يحلّ الحوارُ بين الكلمة والشّيء، محلَّ

الحوار بين الكلمة والإنسان، أو أحيانًا، الحوارُ بين الكَلمة وقائِلها، بوصفهِ شَيئًا. لم يعد

السّامع يفهم كلامَ الشخص الذي يخاطبه إلّا إذا كان تكرارًا لمقولات هذا السّامع.

… وربّما تفهم الشجرة كلامَ الضّوء أكثرَ ممّا يفهمه الإنسان.

وربّما تكون الرّصاصة أعمقَ حِسًّا في انطلاقها نحو الهدف مِنَ الإنسان الذي يوظّفها،

ومن الإنسان الذي يُطلقها.

وربّما تكون اليَمامَةُ أشدّ حنينًا من شعراء كثيرين لا يتكلّمون إلّا على الحنين.

الأشياءُ غيرُ النّاطقة «تحاورُ» و«تعمل» بقدر ما نعرف أن نحاورهَا، وأن نتعامَلَ معها.

لها «عقلها»، ولها «منطقها»، ولها «نظامها».

الماءُ، مثلًا: أليس كائِنًا مكتفيًا بذاته؟ والهواء؟ والحجر؟ أليسا هما أيضًا كمثل الماء؟ أين

الإنسان الذي يقدر أن يَرْقى إلى هذا المستوى؟ ثمّ إنّ الإنسان لم يعد يعرف حَتّى أن يحيا بذكاء

وأخوّةٍ مع الدّروب التي يسلكها، أو معَ الهواء الذي يتنفّسهُ، أو مع الشّخص الآخر الذي يحاوره

أو يُجاوره. وهو يزداد فقرًا في جوهره الإنسانيّ، ويزداد غِنىً في توحّشه وعدوانه.

والشّيء، إلى ذلك، يَشهد على علاقاتٍ تتخطّى الإنسان، بين الرّيح والغبار،

الزّبد والشّاطئ، الضّوء والأفق، المطر والتّراب.

وأظنُّ، أيّها المُتْعَبُ، أَنّك تَستطيع إذا تأمَّلت جيّدًا أن ترَى لهذا الكرسيّ صدرًا واسعًا

ينتظركَ، وذراعين مفتوحتين.

ـ كيف تقارب فعل الكتابة عندك في ظلّ كلّ تلك الظروف. ما هو شكل المحاكاة بينك وبين ذاتك؟

أتخيّل قارئًا صديقًا يهمس في أذنيّ قائلًا:

– أَشُكُّ في أن تكون قادرًا على كتابة ما تريده حقًا. وإذا كنت لا تقدر أن تكتب ما تريده

حقًا، فما جدوى كتابتك؟ وما يكون الكاتب الذي لا يقدر أن يفصح عن مكنونات جسده وفكره؟

يكاد هذا الصديق أن يفحمني، فكيف أردُّ أو أدافع؟ خصوصًا أن الكتابة مهنتي وعمليِ،

فماذا أفعل إن لم أكتب؟ ثمّ إنّني موجود، وحاضر في العالم، بوصفي كاتبًا، وبقوة الكتابة. فما

سيكون معنى استمراري في الحياة، إذا انسلختُ عمّا أوجدني ومنحني حضوري في العالم؟

أعرف أن هذا الصديقَ يشيرُ إلى المكبوت الحياتي في الفكر العربيِّ، وفي الجسم العربيّ،

المكبوت بضغط التاريخ والاجتماع والسياسة والمذاهب والصراعات.. كأنّه يقول إنّ ما تكتب

عنه، ويكتب عنه غيرك، لا يشكّل ممّا يتطلّب المواجهة والكشف، إلّا شيئًا يسيرًا. إنّه السطح،

العام، الشائع. وهو ما يسمح قوله الرقيب المؤسّسي. هناك عالم آخر، واسعٌ وغنيٌّ، لكنّه

مطموس ومحجوب. وأنت لا تقول شيئًا مهمًا، ما لم تدخل فيه، وتخترقه وتفجّره.

 ـ فلنتوقّف قليلاً عند أدونيس والنساء، خاصّة أنّ شعرك لم يأخذ المسار الغزلي التقليدي الذي ساد ويسود عند العرب.

  • ثلاث نساء كان لهنِّ في حياتي تأثير عظيم. سأكتب عنهنّ. يَوْمًا. أذكر الآن ما كتبته لي

مرّةً إحداهنّ، قالت:

«كلّا، ليس لي تاريخٌ خارجَ الأفقِ الّذي أتحرّك فيه نحوكَ». وكانت تسير فيه نحوي – لا

هي تَصِلُ، ولا طريقها تنتهي.

هكذا، لم أصل معها، في رفقتنا، إلى أن أعرف نفسيَ حَقًّا. وتلك هي بين أعظم كُنوزيَ

وأَبْقاها.

ـ ماذا عن اللغة ككيان ودور، وكيف تصف علاقتها بالأشياء؟

تزداد، اليوم علاقة اللغة بالأشياء تعقدًّا وتبلبلًا:

لا نهائيّة المكان، مادّةً وفضاءً، نسبيّة الزمان، البنية الذَّرِيَّة للطاقة، الموجة والجُزيء في

الطَّاقَة… هذا كلّه يتعذّر التعبير عنه بالكلمات. فهناك انفصالٌ يتزايد بين الّلغة والعالم. كأنّ

الكلمات التي نتداولها لا تعيش: إنّها الماضي الذي تجاوزته تفجّرات الحاضر، حركةً وتغيّرًا،

لكنّها في الوقت نفسه لا تزال مستمرّة مهيمنة وسائدةً – أنساقًا وصيغًا ومؤسّسات. وهي إذًا، لا

تعبّر عن الحضور الإنساني المادّي الحيُّ، ولا عن الهواجس العميقة التي تشغلنا في اتّجاهنا

نحو المستقبل، وإنّما تعبّر عن وهم استمرارنا في الوجود. بعبارة ثانية: لم يعد لكلماتنا معنى.

هكذا نتكلّم أو نكتب لكي نضرب الكلمة بالكلمة، أو لكي نكفِّنها، أو لكي لا نقول شيئًا.

هذه خلاصة ما يقوله الناقد الإنكليزي المعاصر جورج شتاينر في كتاب أخير له: «اللغة

والصمت» كأنّه يقول: هو أيضًا: الحقيقة في الغرب، هي اليوم خارج اللغات الغربيّة.

وأنتَ، دون ذلك، لا تشارك في تقزيم الثقافة وحدها، وإنّما تشارك أيضًا في تقزيم اللغة.

إذًا، لا تطرح هنا مسألة المكبوت العربي، بفعل الدّين والسياسة، وحدها، وإنّما يطرح في

الوقت نفسه، مسألة اللّغة في علاقاتها مع العالم وأشيائه.

وللقدامى آراء مضيئة : كان علماء البصرة يرون أنّ اللغة مرآةٌ تعكس المفهومات

والظواهر والأشياء عكسًا دقيقًا، لذلك لا بُدّ من أن  تتصيّدها، كمثل الفكرة، أي لا بُدّ من إدخالها في قوالب العقل والمنطق.

أمّا علماء الكوفة فقد خرجوا على القواعد والقوانين المنطقيّة، وقالوا بالقياس. أي: لا قاعدة

عامّة، بل تنوّعٌ تكون الأهميّة فيه للفرديّ. الخاصّ، الاستثنائيّ، أو ما كان يُسمّى بِالشَّاذّ. ومن

هنا كثرت عندهم الصّيغ والأوزان اللغويّة، ورأوا أنّ كلّ ما وردَ على ألسنة العرب أَصْلْ، ولو

خالف المنطق وعقلانيّته.

وفي هذا يبدون كأنّهم يقولون: ليس الأصل في القاعدة، وإنّما الأصل في الحياة وفي

التجربة الحيَّة.

ويرى جابر بن حيّان في كتابه ميزان الحروف أنّ اللغة ليست وليدةَ الاتّفاق، وليس هناك

نظام يُفسّرها. وإنّما هي انبثاقٌ عن النفس ومنها. وهذا يفترض صلةً جوهريّةً بين طبيعة اللغة

وطبيعة الجسَد.

ـ اليوم يزداد عدد المسلمين في أوروبا، مع كلّ العناصر المرافقة للخصوصيّة الدينيّة، مِن مساجد، واحتفالات، ولحم حلال، وخصوصيّات في شهر رمضان، ومسيرات في عاشوراء. كيف تقرأ هذا الواقع وانعكاساته؟ 

أدعو المسلمين العرب إلى أن يقارنوا بين حضور الإسلام في أوروبّا، أندلسيَّا، وحضوره

اليوم. وأدعوهم إلى أن يُعملوا عقولهم بصدقٍ في هذه المقارنة، وأن يستخلصوا بصدق كذلك

الدّلالات والمعاني.

أمّا النتائج ماضيًا وحاضرًا، فنرجئ البحث فيها إلى وقتٍ آخر.

باختصار شديد: كان حضور الإسلام العربي، أندلسيًّا، إشعاعًا وبناءً. أمّا حضوره،

اليوم في الغرب، فتراجع وانكفاء.

كان الإسلام العربي حاضرًا في الأندلس، شريكًا، في العمل الإنسانيّ التمدّني، واليوم

يحضر، عالةً على هذا العمل.

كان حاضِرًا ومنتجًا، واليوم يحضر آخذًا ومستهلكًا.

كان حاضرًا، كشْفًا وانكشافًا، واليوم يحضر حجابًا وحجبًا.

كان حاضرًا حوارًا وكتابًا، واليوم يحضر عنفًا وإرهابًا.

كان حاضرًا، أصيلًا، واليوم يحضر دخيلًا.

أدعوهم، بعد ذلك، أن يتكرّموا وأن يتواضعوا، فيضعوا أنفسهم مكان الأوروبيّين،

وينظروا، ويتفهّموا، ويحكموا.

الأوروبيّون الذين ثاروا على جميع المعوّقات وفي طليعتها تلك المرتبطة بالدين، أو النابعة

منه، من أجل أن يتقدّموا، ومن أجل أن يصبح كلَّ فرد فيهم سيّد نفسه وسيّد مصيره، ومن أجل

أن يسودَ القانون، ومن أجل أن تتأصّل حقوق الإنسان وحرّياته، وواجباته كذلك – هؤلاء

الأوروبيّون كيف لا يثورون من جديد، إذا رأوا أشخاصًا يعيشون بين ظهرانيهم، ويستفيدون

من منجزاتهم في جميع الميادين – ومع ذلك يخصّصون لأفكارهم قيمة اجتماعيّة لا تقيم وزنًا

لتاريخهم هذا، ولا لنضالهم من أجل خلق ثقافتهم لحضارتهم فقط، ألا يحقّ لهم أن يجدوا في

ذلك نوعًا من العدوان عليهم، وعلى حياتهم، وعلى منجزاتهم؟ ولماذا لا نتفهّم الأمّة إذًا أو مثلًا

في الحجابِ الذي يُسدل على الوجه، ما يَسْخَرُ من وجوههم وما «يحجب» تلك الأشياء العظيمة التي ناضلوا من أجل «الكشف» عنها، وما يحجب حَتّى حياتهم اليوميّة؟ ألا يحقّ لهم أن يروا أنّ  «الحجاب» في مدنهم ليس إلّا «ضبابًا» كثيفًا على «شمسهم».

وأرجو المسلمين العرب أن يسألوا أنفسهم بالمقابل: هل نسمح للأوروبيّين أن يفعلوا في المجتمعات العربيّة كما يفعل المسلمون في المجتمعات الأوروبيّة؟

هنالك لا شكّ مفكّرون وكتّاب في أوروبّا يدافعون عن هذا النوع من الحضور الإسلامي

العربي في أوروبّا، حتّى في أشكاله البائسة. وذلك باسم الدفاع عن الحريّة الإنسانيّة. غير أنّ

هؤلاء لا يعبّرون عن الوضع الاجتماعيّ – القيمّي الأوروبيّ.

إنّهم يعبّرون عن أفكارهم وآرائهم وحدها. وهذا في حدّ ذاته، يمثّل ظاهرة إيجابيّة، تُوضح

مكان الحريّة، ومكانتها، وأهمّيتها في المجتمعات الأوروبيّة. لكنّها لا تمثّل هذه المجتمعات

أخلاقًا، وعاداتٍ، ومسلكيّاتٍ، وأفكارًا. ولا بُدّ للمسلمين العرب من أن ينظروا إلى ذلك بتبصّر،

واحترام. الأمر نفسه في الجسم الاجتماعي الإسلامي العربّي فهو كذلك لا يرى أنّ المفكّرين

والكتّاب العرب يمثّلون في كتاباتهم، أو يفصحون عنه.

فالحجابُ إلى جانب كونه مسألة ثقافيّة، مسألةٌ عادة وتقليد وبعضهم يرونه، إضافة إلى هذا

كلّه، مسألة دينيّة. وهذا لا يسّهل الأمر، وإنّما على العكس يعقّده. لأنّه يؤدّي بالمتديّنين الأوروبيّين إلى النظر إليه بوصفه «نقدًا» لما يؤمنون بهِ، دينيًّا، إلى جانب كونه «استهتارًا» بثقافتهم.

إنّ «الإسلام» في أوروبّا لا يمثّل الإسلام – وإنّما يمثّل «عقليّة» معيّنة، خاصّة: من أين تجيء هذه العقليّة لعلّها في العمق سياسيّة تلبس لباسًا دينيًّا.

«الأخلاق» التي يمارسها المسلمون في أوروبا إنّما هي «أخلاق» تمليها أيديولوجيّة معيّنة،

ولا يمليها النصّ الدّيني الإسلاميّ. وهؤلاء المسلمون لا ينتمون في معظمهم، إلى الأبعاد

الثقافيّة – الإبداعيّة في الحضارة العربيّة – الإسلاميّة، وإنّما ينتمون إلى إسلام العادات

والطقوس. إنّهم كما كان يعبّر المسلمون القدامى لا ينتمون إلى جمهور «الخاصّة»، وإنّما

ينتمون إلى جمهور «العامّة». والطامة الكبرى هي أنّ هذا الجمهور يبدو كأنّه سائِر إلى

تأسيس «إسلام آخر» – عباديّ، وطقوسيّ، لا يؤدّي إلّا إلى تشويه الصورة الإنسانيّة الحقيقيّة

للحضارة التي أنشأها المبدعون المسلمون في جميع الميادين.

هكذا يتيح العرب أنفسهم للغرب أن يحاصرَ المسلمين بوصفهم ضدّ التقدّم، وضدّ الحريّات.

ويتيح له أن يدلّ عليهم بأنّهم لا يتعلّمون من كتابهم المُنزل إلّا الإرهاب والحجاب.

الحجابُ في الغرب، بوصفه جزءًا من الحياة اليوميّة. ويحمله أشخاص يتمتّعون بالحقوق

نفسها التي يتمتّع بها الغربيّون، يندرج، بالضرورة كجزءٍ من ثقافة الغرب. ولهذا من حقّهم أن

يقولوا فيه رأيهم، شأنهم في قضاياهم الثقافيّة والاجتماعيّة. وتبعًا للمبادئ التي قامت عليها

ثقافتهم، لا بدّ من أن ينظروا إلى الحجاب بوصفه رمزًا لنكوص المرأة وانسحابها من الحياة

الحرّة، وبوصفه ازدراءً لتاريخ طويلٍ من النضال النسائيّ، دفاعًا عن المرأة وحقوقها في

المساواة مع الرجل، والحريّات في جميع الميادين وعلى جميع المستويات.

هكذا ستبدو ممارسة الحجاب في الغرب، لا نوعًا من التديّن، بل ستبدو نوعًا من العدوان

بوصفه ظاهرة تتخطّى المسألة الدينيّة إلى المسألة المدنيّة، الثقافيّة والاجتماعيّة (لأنّها تتخطّى

مكان العبادة – الجامع ورمزيّته)، وبوصف أصحابه أنّهم لا يعترفون بقيم المكان الذي

يعيشون فيه، ولا يحترمون أخلاقيّته.

السؤال الأوّل الذي يتبادر إلى الذهن إزاء غياب الاهتمام لدى المسلمين بدور في الحضارة

الراهنة، هو:

ماذا يعني لهم تاريخهم الحضاري؟

وهل يعتبرونه جزءًا من الإسلام حقًا؟

وهل يرون للإسلام دورًا حضاريًا على مستوى العالم ومستوى الإنسانيّة ومستقبلها؟

أم يعتبر كثيرون أنّ تلك الحضارة كانت ظرفًا مرافقًا وغنيمة من غنائم التوسّع؟ وأنّ

الجوهري الذي ينبغي الاكتفاء به هو الإيمان والعبادة؟ وهل الإيمان والعبادة على أهميّتهما

للمسلم منتهى رسالة الإسلام؟ أي هل الإسلام مسألة فرد يؤمن ويتعبّد أم له رسالة كونيّة؟

وكيف تمارس في الوقت الحاضر؟

لكن في هذه الحالة ما مسؤوليّة المسلم عن عالمه وعن العالم الذي يتطلّع إلى دعوته دون

محاورته؟

وبالتالي هل الأندلس نموذج للحضور الإسلامي، أم الحضارة الأندلسيّة نموذج

مرفوض؟

وإذا كان لكلّ حضارة معيارها وموجباتها فلماذا لا يتفهّمون معايير حضارة يتمسّكون

بالعيش في إطارها؟

هل يستطيع الأوروبّي والأوروبيّة أن يتنزّها في شوارع طهران أو الرياض كما يريدان؟

وبالزيّ المألوف في بلادهما؟

وإذا كان المسلمون في الحضارات الأخرى يطالبون بالاعتراف بخصوصيّتهم وتاريخهم،

فهل يعترفون، بدورهم، بخصوصية الحضارات والبلدان المضيفة وتاريخ نضالها وما حقّقته

من مكتسبات؟

لا يحضر المسلمون في أوروبا والغرب إجمالًا ولا يحضر الكلام على الإسلام إلا سلبيًا:

بمناسبة حجاب النساء، بمناسبة الحركات الإرهابيّة وإعجازاتها الدمويّة، وبمناسبة الردود

الجماعيّة العنيفة المتطرّفة على شخص هنا وهناك يصادف أنّه عبّر تعبيرًا جاهلًا بالإسلام.

فيستنهض هذا الفرد غضبًا جماعيًا كأنّ الخطر القادر على هدم الإسلام. فلا نقاش ولا

حوار. ولا تجاهل يتعالى على خطأ المُخطئ.

وما يثير الحزن هو أن هؤلاء الغاضبين لم يفعلوا في حياتهم شيئًا للخير العام الإنساني

باسم الإسلام الذي يغضبون له. بل لا يفعلون إلّا ما يدلّ على الانكفاء والعدوانيّة.

المتشدّدون الغاضبون للإسلام المدافعون عنه والمتعقّلون أصحاب الأفق الواسع المُنفتح،

لهم جميعًا رد موحَّد واحد دفاعًا عن الإسلام: الأندلس أو الماضي. وهذا اختباء وراء الماضي

لتحاشي التحدّي الحاضر: ماذا يفعلون اليوم؟ لن يهربوا طويلًا من هذا السؤال. أو كم

سيتهرّبون من هذا السؤال؟

لماذا يعتبر المسلم في أوروبا أنّ على الأوروبيّين مراعاته وقبول اختلافه ومنحه شروطًا

استثنائيّة بينما هو لا يقبل غيره، ولا يراعي الاختلاف الأوروبّي وشروط الحياة والمعايير

الأوروبيّة.

هل يعتبر المسلم أنّ له رسالة في العالم تتعدّى التبشير (الدعوة) والفتح وهل يعنيه حال

البشريّة ولو كان شطر منها غير مسلم؟

وهل هناك أفق لقاء وتبادل على مستوى إنساني ثقافي لمصلحة الكوكب الأرضي

والإنسانيّة جمعاء؟

ولماذا يكون الغربي دون العربي، المسلم، معنيًا بالصحّة العالميّة وارتفاع حرارة الأرض

ومشكلات التلوّث ووفيّات الأطفال في العالم؟

ـ من ناحية ثانية، هل تعتقد أن الغرب يقرأ الإسلام بشكل صحيح وبالعمق المطلوب؟

لا يحضر الكلام على الإسلام إلّا في أشهر الصوم والحجّ ومسألة الحجاب. وهي جميعها

مسائل تتعلّق بالحياة الفرديّة.

لكن يبدو كأنّ المسلمين فئتان، فئة منغلقة معنيّة بشؤون العبادة على المستوى الفردي أو في

إطار عدد من المسلمين، وفئة قليلة تشارك في الحياة العلميّة والثقافيّة والجمعيّات الإنسانيّة.

القرآن ليس إنجاز المسلمين، أو هكذا هو الاعتقاد. لذلك السؤال ليس مطروحًا على هذا

المستوى، السؤال مطروح على المؤمنين بالقرآن والذين ينطلقون من هذا الكتاب العظيم. ماذا

تعطون أنتم اليوم كبشر وحضارة ولكم مثل هذا التراث؟

وكيف يقدر أن يثمر لدى البعض حركات عدميّة إلغائيّة لا تطمح إلّا إلى إلغاء من هم خارج

القرآن والإسلام بل إلى فئات ممّن هم داخله أيضًا، وكيف لا تثمر هذه المعرفة ضوءًا متناسبًا مع مصادرها؟

وهل هذه الرسالة العظيمة موقوفة على سجن المرأة وقتل المُختلف؟

وإذا كان هذا العصر عصر الاعتراف بالمختلف واعتبار الخصوصيّات الثقافيّة تنويعًا،

كيف يفترض أن تكون النظرة إلى من يدين المختلف ويكفّره؟

وحيث تتحرّك النساء في العالم كشريكات في العقل والحكم والمصير تبقى غالبيّة النساء

المسلمات «قاصرات» سجينات أحكام جائرة ونظرات قبليّة دخيلة على الإسلام نفسه.

معظم الفئة المتعلّمة هي بين حالتيّ النقل الكامل والترديد الحرفي، من جهة، والجهل من

جهة: شبه الكامل للموروث أو تجاهله والّلحاق بآخر نزعات التعبير والتفكير في العالم، أيضًا

دون مناقشة ومساءلة ومن هنا ندرة الأصوات المبتكرة الخصوصيّة التي تناقش الموروث

والوافد لتبنّي موقفها الخاص.

 ـ نعود إلى سوريا، ونعيد طرح السؤال بشكل آخر: هل سورية اليوم في صدد تقديم نموذج إبداعي متجدّد؟

صعبٌ جدًا، إن لم يكن مستحيلًا، أن نتحدّث اليوم عن الإبداعات الحضاريّة في سورية،

بمعزل عَمّا دَمّره أهل الهاوية الجحيميّة التي سُمّيت «الربيع العربي».

هكذا، أجِدُ في هذه التحيّة الفنيّة العالية رمزًا ثلاثيّ الأبعاد يتمثّل البعد الأول في أَنّ

صاحبها فنّانً فرنسيّ. ويتمثّل البُعد الثاني في العماء السّياسيّ، ويتمثّل البُعد الثالث في كونيّة

الإبداع الحضاريّ.

هكذا نرى في أعمال لوران، صداقة عميقة، إنسانيًّا وفنيًّا، تربط فيما وراء السياسة، بين

الثقافتين السوريّة والفرنسّية، وبين الشعبين السوري والفرنسي.

هكذا نرى أيضًا أنّ الرؤية الفنيّة تخترق السياسة إلى جوهر الأشياء، وتنظر إلى الإنسان،

ذاتًا وآخر، بوصفه مُبدعًا. وهي في ذلك تؤسّس لعلاقاتٍ إنسانيّة عالية، حرّة، مُنفتحة، فيما بين

الإنسان والإنسان، وفيما بين شعبٍ وآخر.

وتِبْعًا لذلك نرى كيف يؤكّد المُنجز الحضاريّ في مختلف تجليّاته على أنّ السياسة العظيمة

تتأسّس على رؤيةٍ ثقافيّة عظيمة، فيما وراء السّياسات، والأنظمة السياسيّة.

الأعمال التي يحتضنها هذا الكتاب شهادة حديثة عالية تنضاف إلى شهاداتٍ كثيرة سابقة،

على محدودّية الرؤية السياسيّة، وعلى أنّها غالبًا ما تكون نقيضًا للثقافة في جوانبها الخَلّاقة،

على الأخصّ.

ويسعدني أن أرى في هذه الأعمال العالية صداقة عاليةً تربط بين الثقافتين الفرنسيّة

والعربيّة، وأن أردّد معَها وعِبْرَها أَنّ الذّات لا تجد فضاءَها الكينونيّ الخلّاق إلّا في انفتاحها

الكامل على الآخر المُختلف.

نعم، الأنا آخر – كما يقول رامبو، وكما قال قبله أسلافٌ كثيرون سوريّون وعرَبْ. ونعرف جميعًا أنّهم سمّوا أرسطو، الآخر، الأجنبيّ، المُختلِف باسم «المُعلّم الأوّل».

ـ كأنك تقول أنّ المسيرة محكومة بالبطء؟

تعبت سورية الأبجدّية من كونها ظلاً في صحراء «الأسد وآله» والآن ظلاً في صحراء الخلافة العثمانيّة بعباءتها الأردغانيّة.

وِحدة المسلمين، سكنَت تحت قُبَّة التبعيّة.

لا شيء تطوّر حَقًّا بشكلٍ موغل في سيف خشب إلّا اختراع الأسلحة الأكثر قدرةً على التدمير وزرع الكرة الأرضيّة بالحمم. في معزل شبه كاملٍ عن التفكير في ابتداع الحلول كي تنقذ البشر وتوحّدهم في العمل معاً لبناء العالم، على نحو أفضل وأجمل.

ـ كيف تلخّص حال المُبدع العربي انطلاقًا من طريقته في التعامل مع الفنون؟

التصوير السائد، الموسيقى الكلاسيكيّة، الأوبّرا: فنون أوروبيّة الأصل، جاءتنا مع الاستعمار الأوروبيّ ‏وما بين التصويرين أي فنّ اللوحة تبعًا لأصولها التي وضعها «عصر النهضة» في أوروبا. وفي عصر الحداثة تبعنا كذلك انفجاراتها وتغيّراتها، ولا نزال حتى الآن ندور في فلكها – ناسين إنّ العمل الفنّي الأوّل في تاريخ الإبداع الفنّي الإنساني كان في مصر والعراق وسورية – أي في مدننا وبيوتنا اليوم وفي شوارعنا، وفي حقولنا.

فنّ التجارة، النزعة الماضويّة، الشهوة التبعيّة: هذا ثالوثنا الحضاري سياسيًّا واجتماعيًّا وثقافيًا في كُل شيء.

في هذا الإطار يمكن القول اليوم: العرب فنيًّا قسمان:

  • قسم يُحاكي الغرب، أي يصدر عن الآخر وذاتيّته.
  • وقسم يُحاكي الماضي، أي يصدر عن زمن آخر، وحياة أخرى، وشروطٍ تاريخيّة واجتماعيّة أخرى.

الأوّل موجودٌ عمليًّا بوصفه أكثر، وبوصفها إذًا، نَقْلًا.

والثاني موجود، بوصفه استيهامًّا واستعادة، خارج التجربة الحيّة، وخارج التاريخ.

في الحالتين أصف الفن العربيّ لوحةً وقصيدة، بأنّه إمَّا استعارةٌ، وإمّا استعادة.

لكن مع ذلك عَليّ أن أشير إلى إبداعات عالية واستثنائيّة، قليلة لكن لا أجد في هذه المناسبة مكانًا للتحدّث عنها.

 

ـ نتمنّى عليك أن تجري تقييماً للحال العربي على خلفيّة الثقافة الدينيّة، بما لها وما عليها.

-ليس القرآن هو الذّي صنع اللّغة العربيّة كما يردّد بعض المتديّنين الذين لا يعرفون عظمة هذه اللغة قبل الإسلام. على العكس: اللّغة العربيّة هي التي «صنعتهُ»: «إنّا أنزلناه قرآنًا عربيًّا».

الإلهّيّ، هُنَا، لغويّ – إنسانيّ.

القرآن، بوصفه، حصرًا، دينًا، أبقى العربَ كما هم: «قبائل» و«شعوبًا»، – «إنّا جعلناكم قبائلَ وشعوبًا لتعارفوا».

وتجسّد هذا «الجَعْلُ» في تأسيس دولة الخلافة الأولى – في كلمة مؤسّسها الأوّل عمر بن الخطّاب في اجتماع السقيفة: الخلافة في قريش وحدها (في بني أميّة). (والنبوّة في بني هاشم). هكذا تأسّست هذه الدوّلة على «قِسمةٍ ضيزى»، في إهمال كامل للقبائل العربيّة الأخرى.

الممارسة الدينيّة، على العكس، أعطى مشروعيّةً قَبَليًّة للمسلمين، وهي بذلك عَمّقَت الانقسام القَبَليّ. وإذًا، أسّست لانقسامٍ على مستوى السّلطة، بين القبائل. عمليًّا، أسَّست لغلبة الْأَقْوَىَ مادّيًا واجتماعيًّا أو للأكثر عدّة وعددًا، وليس لغلبة الأكثر إيمانًا وتَقْوى. مع أنّ الآية تقول: “إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم” – ولم تخصّص الآية قبيلة أو جماعة أو فردًا.

والسّلطة صراع، وبوصفها كذلك، أدّت في الممارسة إلى تأسيس ثقافة أيديولوجيّة قوامها ثنائيّة المؤمن والكافر، المؤمن والمرتدّ، الصّالح والزنديق …إلخ.

وهي ثقافة تطبع الحياة في العالم الإسلامي، العربي، حتّى اليوم. لكن يجب هنا أن نحيّي الخلّاقين الذين رفضوا هذه الأيديولوجيّة، وأنتجوا ما يناقضها: الشعراء والفلاسفة والمتصوّفين، على الأخصّ.

هؤلاء الخلّاقون هم الذين خلقوا بتمرّداتهم، كلّ في حقله الخاص، وبطريقته الخاصّة، ما نسمّيه الآن بـ«الحضارة العربيّة – الإسلاميّة».

الفقه هو، وحده، نتاج السّلطة. وهو عالَمً سَطْحيٌّ، ليسَ فيه أَيّ بُعْدٍ رُوحيّ. بل إنه ابتذلَ الألوهة، وأدخلها في الحياة اليوميّة – في تفاصيلها الشَّخصية الحميمة، أمرًا ونهيا. عدا أنه «ثقافة» سلطويّة مَحْضة.

الفقه في معظمه دَمَّر الإنسانَ من داخل ووضع طاقاته كلّها بين حَدّين: افعلْ هذا، لا تفعل ذاك.

الفقه، أمرًا ونهيًا: سجنٌ هائلٌ للعقل الإنسانيّ، لحقوق الإنسان وحريّاته.

إنّه في معظمه تدميرُ منظّم للإنسان، وللعبقريّة الإنسانيّة.

العمل الإسلامي الضروري خصوصًا في هذه الآونة هو الخروج كليًّا من الفقه وعالم الفقه، والعودة إلى النصّ القرآني ذاته.

ـ  ما معنى الدّين، وما هي الآفاق التي تتوقّعها للحالة الدينيّة، ونحن نعلم ارتباط الإسلام بالذات العربيّة؟

 الوحي إلهامٌ يحصل:

أ. في : «فكرٍ يبعثه الله في نفس شخصٍ لكي يتيح له القبض على جوهر الرسالة الإلهيّة».

ب. في «عبارة لغويّة مقدَّمة في لغةٍ بشريّة» (الإسلام).

الإسلام، وفقًا لذلك:

1 – محمد خاتم الأنبياء (لا نبيّ بعدي).

2 – الحقيقة التي نقلها خاتمة الحقائق.

3 – ليس للإنسان أن يغيّر أو يضيف. وإذا فكّر، فلكي يفسّر. الفكر تفسير، لا تغيير.

معنى ذلك، عقليًّا ومنطقيًّا وعمليًّا، أنّ الله نفسه لم يعد لديه ما يقوله.

والحلّ إذن يفرض نفسه تلقائيًّا: الدين فرديّ، والمجتمع مدنيّ.

ظاهريًّا يبدو أنّ المشكلة في المجتمعات الإسلاميّة في سياسته الاقتصاديّة، لكنّها عمقيًا ثقافيّة. الثقافة السائدة تقدّم للمجتمع حلولًا ترتكز إلى عقليّة القرون الوسطى. ثقافة لا تُعْنَى بالإنسان وحقوقه، بل بالنصوص الدينيّة وتطبيقاتها. لا مكان للفرد، بوصفه كائنًا حرًا مستقلًا.

ليس للفرد المسلم في البلاد التي ولد فيها، ويعيش فيها، هويّة اجتماعيّة. هويّته دينّية. والدّين مرتبط بالسّلطة وفقهها، ما يكون إذًا، شأن الثقافة في مثل هذه البلاد؟

الدّيموقراطيّة؟ لا تَعني مجرّد التّصويت أو الانتخاب بحريّة. إنّها تعني أوّلًا الاعتراف بالآخر المختلف. بحقوقه كاملةً في جميع الميادين، وعلى مختلف الصُّعُد. إنّها فيما وراء مفهومات «الأقليّة» و«الأكثريّة». فهذه مفهومات لا تنظر إلى الإنسان المواطن من زاوية الانتماء إلى مجتمع واحدٍ وبلادٍ واحدة، بل من زاوية الانتماء إلى إثنيّة، أو مذهب، أو طائفة، أو قبيلة.

الإنسان بإنسانيّته، لا بإثنيّته أو مذهب، أو كونه من الأقليّة أو من الأكثريّة. ووفقًا لهذه المبادئ، لا يمكن أن يكون المسلمون ديموقراطيّين. إنّهم اثنان: متبوع وتابع، في كلّ شيء.

والمشكلة الكبرى، في هذا الإطار، هي أنّ المرجعيّة بالنسبة إلى «الجمهور» – «الجماعة»، ليست في الحياة، وإنّما هي في الموت. هي تحديدًا، في الأسلاف – الموتى. الموت وَالْمَوْتَىَ، أساسُ الحياة، لا على الأرضِ وحدها، وإنّما في السّماء أيضًا.

وبقدر ما يكون عدد الموتى كثيرًا ومتزايدًا، تكون المرجعيّةُ حيّةً، قويّة. وذلك هو السّر في الرّغبة بالموت. فالموتى أكثرُ أهميًّة من الأحياء. ذلك أنّهم هم السّابقون الذين ذابوا في الأصول والينابيع. والسّابقون هم دائمًا يتقدّمون اللّاحقين. مُتّ، إذا شئتَ أن تَحْيا.

شادي منصور

المدير العام

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى