العدد الرابع عشر

رائحة الموت

كان بلده يعيش حالة حرب. رغم أنفه اقتيد إليها؛ سَلَّموه سلاحًا وبذلةً، ووَضَعوا هدفًا أمامه وقالوا:

 “أطلِق”.

أطلق رصاصةً نحو العدم، بعيدًا من الهدف، فقالوا: 

“جيد بما فيه الكفاية”.

ثم حُمِل كدابّةٍ إلى أرض المعركة؛ أرضٌ قاحلة تفوح منها رائحة الموت والدم والدخان. عَزَّى نفسه بأفكارٍ فارغة لم تَمكُث إلّا وقتًا قليلًا. وعندما أشاروا نحو العدو، قالوا: 

“ذاك عدوكم؛ إن لم تقتلوه، قتلكم. هيا! اذهبوا، اقتلوا بعض الأعداء”.

جرى في الميدان كحمارٍ خائف؛ لا فكرة في باله، سوى أسئلةٍ ولِدتْ في لحظة: 

“متى أقف؟ متى أطلق؟ أين أختبئ؟ كيف أعرف إن فزنا؟ كيف أعرف إن خسرنا؟”

كان يعرف جواب السؤال الأخير، ومع ذلك اختار أن يطرحه. فجأةً سُمع دويّ ارتعدت له الأطراف، وبدأ الجنود من الطرفين يسقطون تباعًا. أطلق صرخةً، شهق شهقةً، بكى كما لم يبكِ من قبل؛ اختلط المخاط بالدموع. رفع بندقيته إلى السماء وبدأ يطلق، وكذلك فعل الباقون: رصاصة هنا، رصاصة هناك. بدأت القلوب تنتفخ، لم تعد الصدور تسعها، أما الأعناق فاحترقت نارًا، وبدا أديم الأرض صلبًا كما لم يكن من قبل.

جَرَّ قدميه على التراب، دافعًا جسدَه إلى الأمام.كان يعلم أن لحظته تقترب؛ مسألة رصاصةٍ فقط. تساءل في عمق ذلك الخوف: هل سيرى شريط حياته؟ اختفى السؤال حين أدرك أنّ الشريط سيكون باردًا، لا يحمل أحداثًا تهمّ؛ وبطريقةٍ ما ساعدته الفكرة على الاهتياج.

ظهر بينهم كثور شبق؛ لاحظ أنه يقترب أكثر من اللازم، فوَضَع عينه على العدسة وبدأ يُطلق. شعر برصاصة تمرّ قرب أذنه، مسافةُ نَفَسٍ قصير، فسَقَط على الأرض، صارخًا، يضرب التراب بيديه العاريتين. نظر إلى جَانِبه ليرى أصحابه قد تقلّص عددهم؛ عرف أنه يُماطل الموت، يختار العذاب بالتأجيل.

قام، وقف على رجليه، ورجع ماشيًا بين الجنود والدخان والرصاص. رآهم يسقطون: بعضهم إلى الخلف، والبعض الآخر يسقط، يسقط فقط… كأنّ الأرض تُحكم جذْبها نحو الأسفل. وصل مخيَّمه؛ تقدّموا نحوه يصرخون، يحثونه على الرجوع. أبى أن ينطق بكلمة. قال أحدهم مُصوِّبًا نحوه: 

“إن لم تمت هناك، سأقتلك هنا”.

كان ثابتًا كالموت نفسه، ككلمة حقٍّ لا تلِين! عرف أنه مات هناك، وأن ما يعيشه ليس إلا زيادةً، فائضًا غريبًا تجاوزه. حمل قنينة ماءٍ، واختار المسار الذي أتى منه، جاعلًا البعدَ وجهته. الحرب هي الجحيم؛ الآن يعرف الجحيم. مَن خاض الجحيم صار عارفًا لعمق الحياة.

مشى مختفيًا، وفي رأسه فكرةٌ واحدة تتكرر: الحربُ هي الجحيم. مشى باحثًا عن أفكار، وكأنّه قد وُلِد لتوّه بعد مخاضٍ شديد. العالم يحمله الآخرون بصرامة، فهل نطق أحد بصدق كي يستقيم العالم مع حقيقته؟ كان المجهول من الدروب يغريه؛ ما دام مجهولًا فهو بخير. فليكن الفناء عليهم جميعًا.

يوسف نجيب

روائي وقاص مغربي

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى