شعرية السرد في الراب المغربي
لا تنحصر الشعرية في الشعر وحده، بل تتسع دائرتها لتشمل كل ما من شأنه أن يُحدث أثرًا في النفس. فتمامًا مثلما يؤثر الشعر في المتلقي، تؤثر “النكتة”، واللوحة، والقصة، والفيلم. وإذا نظرنا إلى الشعرية بهذا المنظور الشامل، الذي يجعلها تتصل بكل ما يؤثر في النفس، يكون لها بعد كونيً، وتنفلت من قبضة الشعر الذي تأسست في حضنه، لتنصهر في الوجود بشكل عام.
للراب شعرية خاصة، وتأثير فريد يُحدثه في المتلقي، سواء عبر الكلمات ومعانيها، أو عبر الموسيقى وسحرها، أو عبر اندماجهما معًا في شكل يمزج بين الكلمة والإيقاع. بالإضافة إلى ذلك، وحتى إذا اعتبرنا الشعر أصل الشعرية ومعيار تحديدها في أي فن آخر، فإننا نجد تقاطعات عديدة بين الشعر والراب، من بينها أن كليهما كلام موزون مقفّى دالّ على معنى.
ترجع البدايات الأولى لفن الراب بالمغرب إلى أواخر القرن الماضي، لكنه لم يلبث أن تطوّر وانتشر إلى الحد الذي أصبح فيه اليوم مكوّنًا أساسيًا من مكونات الموسيقى المغربية، بل والعالمية. فقد صار عدد من مغنيي الراب المغربي معروفين على الصعيد العالمي بأغانيهم التي تشكّل الدارجة المغربية أساسًا لها، خالصة أحيانًا، وممتزجة بلغات أجنبية أحيانًا أخرى، مما ساهم في جعل أغنية الراب المغربية قابلة للانتشار عالميًا، والتأثير في متلقٍ كوني، لا يُشترط فيه أن يكون مغربيًا بالضرورة.
تتخذ شعرية الراب المغربي أشكالًا عديدة، لكن حديثنا في هذا المقام سينصب حول شعرية السرد في أغنية الراب المغربي. فمن المعروف أن للسرد شعريته؛ فالقصة، والمسرحية، والفيلم، والرواية، تؤثر في المتلقي نظرًا لبنيتها السردية، فتجعله يتماهى مع شخصياتها ويعيش أحداثها. وبشكل مماثل، يجعل السرد في أغنية الراب السامع يندمج مع الأحداث المروية، ويتخيل الشخصيات كما لو كان يراها بعينيه، بل ويتعاطف معها، ويشاركها أتراحها وأفراحها، ويقاسمها لهوها وجدّها.
حين يروي مغني الراب قصة، فإنه لا يكون ملزمًا بعناصر السرد فحسب (من حبكة وشخصيات وفضاء…)، بل يتوجب عليه أن يجعل كل ذلك خاضعًا لإيقاع متناسب مع الموسيقى، وأن يختار لأسطره قوافٍ تزيد من لذة الاستماع والمتعة الموسيقية. هكذا، يكون الشكل والمضمون معًا ضروريين في أغنية الراب.
تتعدد أغراض السرد في أغنية الراب المغربي، لكن وبشكل عام، يمكن تمييز غرضين أساسيين: الجد والحكمة، واللهو والهزل. فأما الأول، فيعمد فيه المغني إلى سرد قصة بغرض التعريف بشريحة مجتمعية، أو لفت الانتباه إلى قضية من القضايا التي يعيشها الإنسان المغربي، أو أخذ العبرة من تجربة حياتية ما. أما الثاني، فيقوم فيه المغني بسرد أحداث تتصل باللهو واللعب، أو وقائع تحمل طابعًا ساخرًا، تمامًا كما فعل امرؤ القيس في معلقته الشهيرة حين روى حادثة دارة جلجل.
يمكن تمثيل الغرض الأول بثلاثية المورفينl’Morphine التي عنونها بـ “طه الكبرى Taha Lkobra”؛ حيث يحكي قصة شاب مغربي يدعى طه الكبرى، تغيّرت أحوال أسرته من الغنى إلى الفقر، مما اضطره إلى تغيير مكان سكناه من حي راقٍ إلى حي شعبي تنتشر فيه الجريمة، ولا سبيل للعيش فيه بمنطق الغنى. انعكس هذا التحول على طه الكبرى، فوقع في مستنقعات الجريمة. يقول المورفين:
تايق فالدنيا
بنادم ما كيعرَف بقيمة الحاجة حتى كيخسرها
من كاليفورنيا لدرب الطاعون مصيبة
إن السامع المتأمل لهذه الكلمات يجد فيها رمزية شاعرية تتناسب مع غرض الأغنية وأحداث القصة التي ترويها. فالثقة في الدهر (تايق فالدنيا) وتوقع دوامه أمر غير صائب، ذلك أن نواميس الحياة تتغير وتتبدل. وفي هذا يقول أبو البقاء الرندي:
لكل شيء إذا ما تم نقصان * فلا يغتر بطيب العيش إنسان
هي الحياة كما شاهدتها دول * من سره زمن ساءته أزمان
وقد سارت الحياة مع طه الكبرى، فأمن جنبها ونسي غدرها، إلى أن مكرت به نوائب الدهر، فصار لا يملك شيئًا، ووجد نفسه مقذوفًا من أعلى طبقات المجتمع إلى أسفلها. حينها فقط أدرك قيمة ما كان يملكه (بنادم ما كيعرَف بقيمة الحاجة حتى كيخسرها).
تعكس رمزية أسماء الأماكن طبيعة العيش فيها، وشكل وجود المرء داخلها. فـ”كاليفورنيا” لا تحيل فقط على تلك الولاية الأمريكية الشهيرة، بل هي أيضًا اسم حي راقٍ في مدينة الدار البيضاء. تشكل كاليفورنيا مكان الغنى، وهو المكان الذي عاش فيه طه الكبرى أزهى فترات حياته، قبل أن تلقي به المقادير إلى “درب الطاعون”، وهي إحالة على درجة الفقر التي يتميز بها هذا الفضاء الجديد. فالدرب عبارة عن طريق ضيق، مما يعكس الضيق الذي تعيشه الشخصيات داخله، والطاعون مرض قاتل يفتك بالأجساد والأرواح، تمامًا مثلما يفتك الفقر بنفسية الإنسان وأحلامه.
أما الغرض الثاني، فيمكن تمثيله من خلال أغنية دادا Dada المعنونة بـ “عادي جدًا”. يحكي دادا قصته مع فتاة حسناء، ذات مال وجمال، على الرغم من ضيق ذات اليد التي يعيشها، لكنها نظرت إلى روحه قبل أن تنظر إلى صورته، فكان لقاؤهما بداية لقصة حب تشهد عليها الحانة المجاورة لبيته.
وإذا ابتغينا استثمار مفهوم التناص في هذا السياق، يمكن القول إن معلقة امرئ القيس حاضرة في الأغنية بشكل يتناسب مع طبيعة العصر الحديث. فقد حكى امرؤ القيس عن حبه لفاطمة، مشيرًا إلى ولعه بها ومخاطراته في سبيل الوصول إليها:
تجاوزت أحراسًا إليها ومعشرًا * عليَّ حراصًا لو يسرون مقتلي
وبشكل مماثل، تجاوز دادا أحراس الفروق الطبقية ليصل إلى محبوبته:
طلعات معايا فداسيا واخا مبلاصية Panamera
عاودات ليا على trip د آسيا وأنا كاع ما فايت الصويرة
ولد البلاد خبز وبراد
مرحبا بك في الدار الكبيرة
واخا بدات كتجيني الحيرة
واش هذا زهر ولا تقميرة
يستعمل دادا هنا التناص ليعكس التعارض بين الطبقة الاجتماعية التي يعيش فيها، والطبقة الاجتماعية التي تنتمي إليها محبوبته. فـ “داسيا” تشير إلى نوع من السيارات المنتشرة في صفوف الطبقات الاجتماعية الفقيرة أو المتوسطة، بينما تدل سيارة Panamera على الغنى. وبالشكل نفسه، يحيل سفر الفتاة إلى آسيا على طبقتها الاجتماعية الغنية، في حين أن السارد/المغني لا يملك من المال إلا ما يوصله إلى مدينة الصويرة المغربية.
وإذا كان امرؤ القيس قد غامر من أجل الوصول إلى محبوبته وتجاوز الأحراس، فإن دادا قد غامر أيضًا بتجاوز هذه الفوارق الاجتماعية. ونتيجةً لهذه المغامرة، انتابه شعور بالحيرة حول خطورة فعله، وعمّا إذا كان الأمر برمته مجرد حظ سعيد (زهر)، أم أنه رهان قد يكون خاسرًا (تقميرة).
يضيق المقام بتفصيل القول في مظاهر شعرية السرد في أغنية الراب المغربية، ذلك أن عدد الأغاني التي تحضر فيها هذه الشعرية كثير ومتعدد، ولا يمكن عرضها – ناهيك عن تحليلها – جميعًا في بضع صفحات. وحسبنا هنا أن نسلط الضوء على جمالية اللغة، وحسن التعبير، وإبداعية القول، وحبكة القصة التي تتميز بها أغاني الراب المغربية.