العدد الرابع عشر

آخر الشِّعر.. أوّل الحرية؟

لستُ ممّن يهوون التنظير للشعر وفق مقاييس جاهزة: شكل القصيدة، عدد تفعيلاتها، أو حدود قافيتها. فالشعر عندي ليس ما يُقاس بمسطرة، بل ما يقدر أن يبرهن على نفسه بنفسه. هو الكائن الوحيد القادر أن يولد في أيّ وعاء، ويصرخ من أيّ فم. لذلك لا يُختزل لا بقالبٍ محدّد، ولا بموضوعٍ بعينه.

ومع ذلك، يلوح لي سؤال: هل تحوّل الشعر إلى جُلباب يختبئ فيه الشاعر هربًا من مواجهة الرأي العام؟ حين يقترب النص من التابوهات، أو يمسّ مناطق الوعي الجماعي الحسّاسة، يبدو وكأنّ الشاعر يلوذ بحصن اللغة ليُخفي ما يريد قوله، وكأنّ التجميل البلاغي هو الذي يحميه من المساءلة. لكن: أليس في ذلك نوعٌ من التواطؤ؟ كأنّ الشاعر يقول: “دعوني أمرّ، فالشعر يبيح لي ما لا يبيحه الواقع لغيري”.

إذا بنى الشاعر قصيدته على نقدٍ يريد زعزعة ثوابت القارئ، فالمسألة لم تعد مسألة إيقاع وصورة، بل مسألة مسؤولية: هل يضمن أن يتلقّى القارئ الصدمة فعلاً؟ أم أنّ اللغة، بما تمنحه من سحرٍ لحظي، تحوّل النقد إلى زخرفة تُمتع، لكنها لا تُربك؟ هنا يُطرح التناقض: الشعر يفترض أن يوقظ، لكنّه قد ينتهي إلى أن ينوّم.

لو وسّعنا النقاش إلى الفلسفة، لوجدنا أنّ شذرات نيتشه تحمل طبيعة شعرية. وحين نقارن الشعر بالشذرات النيتشوية، يتضح لنا أنّ الفارق ليس في وجود البلاغة أو غيابها، بل في وظيفتها. نيتشه نفسه لم يكتب بلغة جافة أو نسق منطقي محكم؛ بل لجأ إلى بلاغة متوترة، متكسّرة، تخرج على شكل شذرات تقترب من الشعر. غير أنّ بلاغته لم تكن حيلةً للاحتماء، بل كانت سلاحًا للهجوم. لقد كان نيتشه مدركًا أنّ الصدام مع القارئ يحتاج إلى لغة تهزّ كيانه، لا إلى نسق يُطمئنه. لذلك جاءت شذراته أشبه بصفعات متتالية، تحفر في الوعي وتدفع المتلقي إلى مواجهة ذاته وموروثه. إنها بلاغة تكشف، لا بلاغة تخفي. وهنا يكمن جوهر الاختلاف: فالشاعر الذي يكتب قصيدته عن الحرية قد يلوذ بالمجاز ليخفف وقع المواجهة، أما نيتشه فقد جعل من المجاز نفسه أداة للمواجهة المباشرة.

ينفتح هنا السؤال الأوسع: إذا وجدنا أنفسنا في بيئة تكفل حرية الرأي بلا قمعٍ ولا محاكمات رمزية، هل سيبقى الشعر بالشكل الذي نعرفه؟ هل سيتراجع دور القصيدة كقناعٍ وملجأ، ليغدو الشاعر مضطرًا إلى المواجهة المباشرة؟ وهل تتحوّل البلاغة عندئذٍ من وسيلة للتمويه إلى أداةٍ للانكشاف؟ أفلا يكون معنى الحرية عند بعض الشعراء هو اللحظة التي تنتهي فيها وظيفة الشعر التقليدية؟ وهل يمكن أن يكون “آخر الشعر” في نظرهم هو بالضبط “أوّل الحرية”؟
زهراء العفّي

زهراء العفّي

شاعرة لبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى