العدد الخامس

(القصة القصيرة العربية والفلسطينية في ظل التجارب والتوجهات الشبابية)

اعتدنا أن نقرأ ونرى الصورة في القصة القصيرة العربية من وجهة نظر الفئة اليافعة والشبابية، وقصص الأطفال من خلال عيون وإبداع فئة جيل الكبار من الأدباء والكتاب والموهوبين، ولم نعهد أو نعطي الأهمية الكافية لنقرأ للكتَّاب اليافعين أو من هم في المرحلة الشبابية، ليتسنى لنا أن نرى الأبطال والشخوص والرؤية القصصية من وجهة نظرهم، أو من وجهة نظر الأطفال أنفسهم.

وسأحاول، من خلال هذا المقال، تسليط الضوء على التوجهات والتجارب الشبابية، والمضامين الأدبية التي عكست هذه الإبداعات في الآونة الأخيرة، إبداعات هذه الفئة الشبابية من منظورها ورؤيتها الشخصية، حيث بدا الاهتمام واضحًا بهذه الفئة، وأصبح لها أثر ووجود في الساحة الأدبية. وسأتطرق بشكل عام إلى القصة القصيرة العربية، والقصة الشبابية الفلسطينية، بشكل خاص، التي تميز توجهات تجربة هؤلاء الشباب من سائر الأقطار والبلدان العربية الأخرى، كما تميز واقعهم المعيش.

تعد القصة القصيرة سردًا واقعيًا أو خياليًا، يعبر عن أحد الأحداث التي تهدف إلى إمتاع القارئ وتثير فضوله، وتتكون من عدة عناصر. علمًا أن جانب الإثارة والتعقيد من أهم أساسيات كتابة القصة القصيرة، وذلك من أجل زيادة فضول القارئ الذي يدفعه إلى استكمال جميع أحداث القصة حتى النهاية.

والغاية من استعراض القصص هو الإمتاع والفائدة، بحيث يكون الهدف منها أخذ العبرة، ولا شك في أن الكتّابَ الشباب هم مؤلفون مبدعون، منهم من نسج أحداثًا جرت في عالمنا، وهذه القصص تعبر عن واقع الإنسان العربي التَّعِس، ودور الشباب في هذا العالم هو الدور الأكبر، فهم مستقبل الأمة القريب، وعلى عاتقهم تقع مسؤولية التغيير المنشود لواقع مجتمع أفضل وأرقى وأكثر حرية وتقدمًا، وإيصال الموقف الجريء، وطرح العلاج لمشكلات المجتمع والأمة، بمنهج قويم وخلق سليم وإيمان صادق.

إنّ القصّة القصيرة فنّ إبداعيّ أكثر قبولًا وتداولًا بين الشباب، وملائم أكثر للتعبير عن التحولات الاجتماعية بحرية أكبر للبوح في الوصف والقول والتفاصيل، من دون أن يقلل ذلك بالطبع من أسلوب القصة أو مضمونها وطبيعتها كفن أدبي. ولأنّ القصّة القصيرة هي أكثر ملاءمة لإيقاع العصر السريع، سواء لمن يكتبها أو للمتلقي الذي ربما لم يعد يميل إلى قراءة الروايات الطويلة، يمكن القول إن القصة القصيرة أقرب إلى الشباب وتوجهاتهم.

ظل فن القصة القصيرة لسنوات عديدة الصنف الإبداعي المفضل لدى الشريحة الأكبر من الشباب في مجتمعاتنا، وأيضًا لدى المبدعين المخضرمين، لما يتصف به من سمات، يصبح معها قادرًا على أن يستوعب مضمون مخيلاتهم، ويلبي متطلباتهم، ويواكب الذائقة الأدبية لكل منهم.

لقد تناولت التوجهات الشبابية في القصة القصيرة – سواء العربية أو المحلية – مجموعة من القضايا والموضوعات الجادة، كالقضايا المحلية والوطنية والقومية التي تتعلق بمشكلات الأمة، وتتناول كل المواضيع اليومية بما فيها الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية، كما تتناول هذه القصص قضايا كونية وعالمية وإنسانية وبيئية، وتحمل رؤى رومانسية وواقعية وطبيعية ووجودية ودينية وقيمية وأخلاقية، وتعبر عن مجموعة من القيم الإنسانية السلبية والإيجابية من خلال رؤى فلسفية تختلف من مبدع إلى آخر. كما تكتفي بعض القصص القصيرة بالوصف وتشخيص الأدوار والعيوب والنواقص، بينما راحت أخرى تقدم حلولًا كان تطبيقها يتراوح بين الكائن والممكن والمستحيل.

أما من جانب القصة القصيرة الفلسطينية فنرى في أغلب السرد القصصي، لتجارب الشباب الفلسطيني، ما يصف الواقع اليومي المؤلم وممارسات يد البطش، حيث يراها بأم عينه وعلى مسامعه، وليست تشخيصًا لصور ومشاهد سمعها ورآها عبر الأثير، أو في الوسائل الإخبارية والفضاء الأزرق، فتكون تجربة القص واقعية أكثر والتعبير أصدق (فمن رحم المعاناة يولد الإبداع) وتصبح توجهات هذه الفئة الشبابية في القصة القصيرة محورها المقاومة، فلا يخلو إبداع أدبي فلسطيني – مهما كان عنوان وموضوع قصته بعيدًا من الوطنية، ويتمحور حول قضية اجتماعية أو عاطفية وغيرها من المحاور – من الجانب المقاوم بشكل مباشر أو مبطن لوصف واقع مرير معيش، كتقطيع أوصال الوطن بالجدار الفاصل ومعاناته مع الحواجز، ومن سجن وشهادة وفزع وخوف وتنكيل وهدم بيوت واعتقالات، أو اقتحام الجيش لبلداتهم ليقتادوا أقاربهم أو أحد معارفهم، وغيرها من الانتهاكات. فلقد تربى هذا الجيل، من مرحلة الطفولة ثم الشباب حتى مرحلة الكهولة، بطلًا مقاومًا لا يهاب ولا يفزع، ليثبت أن القهر يصنع مقاومين، ويسرد في قصصه أبطالًا يصنعون الحرية، بل لا يهابون الموت والشهادة على الرغم من عشقهم للحياة، وتتعدد أشكال البطولة والشخوص والأحداث في وصف المشاهد اليومية لمواكب جنازات الشهداء في زمكان يتوحد فيه الواقع.

ومن بعض النماذج المقتضبة الحديثة لتجارب وتوجهات الشباب العربي من خلال الوسائل الإعلامية والثقافية والأدبية للقصة القصيرة، ومن ضمنها مسابقة القصة القصيرة العربية للعام ٢٠٢٤، تم اختيار خمسة عشر متأهلًا للنهائيات لهذا العام، من بين أكثر من ثمانيمئة مشارك من الكُتاب من جميع أنحاء العالم، أذكر منهم:

–       قصة (شتلات الموتى) للكاتب ناصر رباح – شاعر وروائي فلسطيني… صدرت له خمس مجموعات شعرية وروايتان، وترجمت بعض أعماله إلى الفرنسية والإنجليزية والإسبانية. ناشط في الحقل الأدبي في غزة، حيث يعيش حاليًا.

–       قصة (النسئ) للكاتبة عزة أبو الأنوار من مصر، مصححة لغوية وكاتبة محتوى، ليسانس دراسات إسلامية وعربية من جامعة الأزهر.

–       قصة (فتى الحافلة ذو القَُشعْريرة) للكاتب حيدرة أسعد – مترجم ومحرر ثقافي، درس في كلية الطب – جامعة دمشق.

–       قصة (رغبات لا ينتج عنها إلا الألم) للكاتب حمزة الذهبي – من المغرب، حاصل على إجازة في علم الاجتماع، وكاتب بحوث ومقالات وقصص.

ومن نماذج هذه التجارب الشبابية الفلسطينية:

– (نموذج قصة إسراء العمارنة) والتي وردت في كتاب بعنوان (صورة البطل في قصص أطفال فلسطين) في مئة وسبع وأربعين صفحة. وهي دراسة بحثية، تطرقت إلى عدة محاور للوقوف على رؤية الأطفال واليافعين والشباب، وعلى تجاربهم وتوجهاتهم بين المأمول والموجود والمنشود، فالقهر يصنع الأبطال من المعاناة اليومية التي يعيشها الشباب الفلسطيني، حيث تطرَّق كثير من كُتَّاب القصة، للكبار والصغار، إلى واقع الاحتلال الذي يفرض الحواجز على الطرقات، بل يمنع الأهالي من الدخول والخروج من مناطق سكنهم إلى المناطق المجاورة في أحيان كثيرة. هذا الواقع الذي يعيشه الصغير والكبير، من الانتظار ساعات وساعات على الحاجز في لهيب الشمس الحارقة وبرد الشتاء القارس، يترك في النفوس جرحًا عميقًا، إلا أن هذا القهر اليومي يولِّد عنفوانًا:

«نزلتُ من الحافلة ونزل الرُّكاب، كانت الشمس تأكل أجسادنا وتصيبنا بالألم، كنت أشعر أن رأسي يسيح بفعل الحرارة، هناك كانت تجثو على الطريق أكوام من الرمال، لا، بل أكوام من الهموم، من الذُّل، تتراكم في منتصف الطريق على بُعد لا يتجاوز الأمتار. كانت آلة الموت تترقب فريستها لهذا المساء».

تطرقت اليافعة إلى قضية الحواجز باسم «حاجز الموت»، الذي يُشعِرها بالذُّل، لكنها تريد للحياة أن تستمر:

«كنتُ لا زلت أخطو على الرمال المبتلة متجهة نحو الشاطئ حتى أعبر حاجز الموت. أكسب حياتي مع قليل من الذُّل، أفضل من أن أفقدها ويقولون شجاعة، لا بل بلهاء، لا بل لا أعرف ماذا سيقولون؟ ولا أريد ذلك.

– هو التصوير ذاته للحاجز على أنه (حاجز موت) و(آلة موت) نجده في قصة (حواجز حواجز) لليافعة (إسراء العمارنة) ذات الأربعة عشر ربيعًا، تُصوَّر هذا الألم الذي يعانيه الأطفال والكبار من هموم الذُّل على الحواجز، تُصوَّر الجندي بسلاحه على الحاجز كأنّه آلة موت تتربَّص بهم جميعًا، وهو الواقع الذي يعيشه الفلسطيني بكل فئاته العمرية بشكل يومي.

وفي الختام أقول:

الشباب هم أطفال الأمس وعماد الحاضر وقوة المستقبل، هم الركيزة الأساسية في تقدّم وبناء كلّ مجتمع وأمة، فهم يحملون في داخلهم طاقات وإبداعات متعددة، يحرصون من خلالها على تقديم الأفضل للمجتمع الذي يعيشون فيه. هم قادة سفينة المجتمع نحو التقدم والتطور، ونبض الحياة في عروق الوطن، ونبراس الأمل المضيء، وبسمة المستقبل المنيرة، وأداة فعالة للبناء والتنمية. فيجب إعطاء المساحة والدعم لهذه الطاقات الإبداعية من خلال الوزارات والمراكز والأندية الثقافية.

•       أصدرت عدة مقالات أدبية وقراءات تحليلية، نشرت على صعيد واسع في الصحف والمجلات الإلكترونية والورقية والمنصات الأدبية. ويشار فوز الكاتبة في مقال نقدي ضمن مشاركة كبار النقاد والأدباء على المستوى الوطن العربي في أيلول ٢٠٢٤، وحصولها على الرتبة الثانية.

وفاء داري

وفاء داري كاتبة وباحثة من فلسطين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى