Uncategorizedالعدد الخامس

الاختزال والتكثيف في الرواية القصيرة جدًا

التكثيف كمصطلح أدبي هو خصيصة جوهرية من خصائص الشعر، ويكون على المستويين البنائي والدلالي، فالتكثيف البنائي هو الاقتصاد اللغوي وعدم تحميل النص بكلمات زائدة عن حاجاته، والتكثيف الدلالي هو تحميل الكلمات وشحنها بالدلالات المتعددة. يشتبك التكثيف البنائي بالتكثيف الدلالي اشتباكًا لا انفصال فيه، بحيث يتحقق الاقتصاد اللغوي القائم على إزالة الحشو والزيادات مع التكثيف الدلالي، وتكثير وغزارة المعنى في آن واحد”.

“الجدير بالإشارة أن التكثيف والاختزال ليسا مصطلحين مترادفين يحل كل منهما محل الآخر، فالاختزال يختلف عن التكثيف في كونه تكثيفًا شديدًا، يستخدم في صياغة النصوص القصيرة جدًا كالاٍبيجراما أو الومضة الشعرية، وهو بذلك يتناسب مع النص القصير الوامض الخاطف الذي يعبر عن لحظة أو مشهد خاطف وامض، يصوغه الشاعر بأقل قدر ممكن من الكلمات، وأكبر قدر ممكن من الحمولات الدلالية “محمد عزب الأنطلوجيا 9 شباط 2021 طامي الشمراني”

اهتم الأدب الوجيز كالقصة والقصة القصيرة جدًا، وكذلك قصيدة النثر والهايكو، بالإيجاز والتكثيف في عملية السرد وتخليق النصوص السردية والشعرية، لتستوفي مبررات وجودها كجنس أو أجناس إبداعية تستجيب لروح العصر ومتطلباته، مثل الاختصار وعدم الإسهاب في التوصيف والتعريف، والاكتفاء بما قل ودل من الكلمات والجمل. فلقد اهتم العرب عبر تراثهم الأدبي والكتابي بهذا الأمر، حيث دعا عبد القادر الجرجاني إلى (تجويع اللفظ وإشباع المعنى)، وهذا التعبير أو هذه التوصية تستبطن الكثير من معنى ودلالة  التكثيف والاختزال، وهذه  الوصية أو النصيحة الجرجانية الثمينة ربما تكون سابقة حتى لعصرها، حتى إنها أصبحت ضرورة ملحة في عصرنا الراهن عصر العولمة، عصر السرعة، واقتصاد الزمن في واقع يستوجب السرعة والإيماء والرمز، ولا يحتمل الإطالة والإسهاب، ومن مبررات ذلك انشغال الإنسان حد القهر بالعمل اليومي لتأمين متطلبات الحياة المتزايدة دومًا. فالإنسان، في عصر الإنترنت وتطور شبكات التواصل والفضائيات الواسعة الانتشار، أصبح يستبطن الكثير من المعلومات التي كانت عصية عليه في القرون الماضية، وبذلك أصبح يفهم ويدرك الكثير من الأمور والصفات والتعريفات بالإشارة، فلا داعي للإسهاب والإطالة والإعادة المملة  للكثير مما يعرفه ويضمره المتلقي في ذاكرته وتجربته الحياتية، وكأن المتلقي يتوسلك: يا أخي لا تعد علي ما أعرفه، أخبرني بالجديد المتفرد للشيء الموصوف من قبلك، فأنا أعرف تفاصيل برج إيفل، وتاريخ  إنشائه ومهندسه، لا داعي أنْ تصفه لي وتعرفني طوله ومساحته وتفرعاته، أخبرني إذا استجد  شيء في هذا البرج لا أعرفه. أخي صاحب المطعم، أعطني وجبة غذاء أتناولها وأنا أسير حتى لا يفوتني القطار أو الطائرة، لا وقت لدي للجلوس وتناول الطعام المتنوع والمقبلات و…  في مطعم فاخر …

وأنت يا أخي الروائي العزيز، وقتي محسوب ببضع ساعات قد أقضيها في قطار أو طائرة أو باص نقل، أو فترة استراحة بين دوريتي عمل في معمل أو مصنع، وأنا بالتأكيد بحاجة إلى وجبة غذاء روحي كالرواية والشعر والقصة. شكرًا لكاتب القصة القصيرة جدًا لأنه اختزل  كثيرًا، كما فهمني كاتب قصيدة النثر والهايكو… أما أنت  أيها الروائي فقدر وقتي، ولا تحرمني من متعة قراءة الرواية، أرجوك كثف… اختزل… قلل… احذف كل الزوائد والمرادفات… اختر كلمة واحدة ولا تكرر المرادفات… فكر في كتابة كل مفردة لتكون هي أفضل الكلمات تعبيرًا عن المعنى وتخليق المبنى… واستذكر مقولة الجرجاني: (تجويع اللفظ وإشباع المعنى)، كما أرجوك ألا تعد عليَّ ما استبطنته من معرفة عن المدن والبنايات وعمارة الدور، وحتى التوصيف السائد لشكل وملابس الشخصيات الروائية، اذكر لي فقط العلامات الفارقة. رجوتك، ضمن ما استبطنته من معلومات وفرتها ثقافة العصر الراهن، ألا تطيل وألا تسهب، فحينما تذكر مدينة لندن مثلاً، تتولد في مخيلتي كل صفات هذه المدينة وساحاتها وشوارعها ومتاحفها ومسارحها ومتنزهاتها… فقط أعطني وصفًا، إنْ جد فيها جديد لا أعرفه.

من تجربتي الحياتية سألت أحد الأصدقاء عن صديق مشترك، فقال: نعم هو بخير، رأيته يرتدي بذلة زرقاء من قماش إنكليزي، خاطها عند الخياط فلان، دفع له المبلغ الفلاني أجرة، زوج أحد أولاده من إحدى بنات خالته المعلمة في المدينة الفلانية وعمرها… وظل يشرح ويفصل بإسهاب ممل لأمور أنا لا أحتاجها، وأخرى أنا أعرفها… كل ما أردته منه أن يقول إني رأيته وهو بخير، وكفى.

وهذا هو ما تريد أن تنتهجه الرواية القصيرة جدًا في أسلوب سردها وحياكتها لأحداث الرواية القصيرة جدًا، لتفي بشروطها في الاختزال والتكثيف مع احتفاظها باشتراطات الرواية، وهذا يفرض على الروائي التفكير كثيرًا قبل أن يكتب المفردة ويصوغ الجملة من دون زوائد، حتى تعبر أحسن تعبير عن المعنى، وتكتنزه من دون كرش وترهل، فتأتي رشيقة أنيقة معبرة. وهنا يجب أن يمتلك الروائي مخزونًا لغويًا وثقافيًا كبيرًا، يضخ له الكلمات والمفردات من مخازن ذاكرته الثرية بها، شرطها الأول هو كثرة القراءة والمطالعة، وكما ذكر الأستاذ عبد الجبار الرفاعي ضمن مقال بعنوان (الكتابة بوصفها فن الحذف والاختزال): (كما الاقتصاد سياسة مكثفة، كذلك الكتابة مطالعة مكثفة)

لذلك ترى المتحدث أو المحاضر المكتنز للمعرفة يعبر عما يريد بأقل الكلمات وبأقصر الجمل، بينما نرى آخر قليل الاطلاع يظل يلف ويدور ويرغي ويهذر محاولًا توصيل ما يريد إلى المتلقي من دون جدوى.

فالكتابة الجزلة المعنى الرشيقة القوام أمر في غاية الصعوبة، وعلى وجه الخصوص في مجال كتابة الرواية القصيرة جدًا. قال “أرنست همنغواي” لمن يريد أن يصبح كاتبًا، وبالتحديد روائيًا: (عليه أن يذهب ويشنق نفسه، لأنه سيجد أن الكتابة صعبة إلى درجة الاستحالة. ثم ينزل ويعرض هو على نفسه أن يكتب أفضل ما يستطيع للبقية الباقية من عمره، عندها ستكون قصة شنقه بمثابة البداية).

هذا ما قاله “همنغواي” حول صعوبة الابتداء بكتابة رواية طويلة أو قصيرة، وهو لم يكتب رواية قصيرة جدًا، تستدعي جهودًا أضعاف ما تتطلبه كتابة رواية طويلة أو رواية قصيرة، لإيصال هذه الفكرة المستعصية إلى المتلقي بأسلوب مختزل مختصر مكثف. وكما قال الدكتور حسين المناصرة في مقال حول كتابة القصة القصيرة جدًا: (وكان السؤال الأكثر إلحاحًا في مجال الكتابة عمومًا، والقصة القصيرة جدًا خصوصًا، هو: كيف أصبح قاصًا حقيقيًا؟! وكانت الإجابة الوحيدة: قبل أن نكتب علينا أن نقرأ، ثم نقرأ، ثم نقرأ في المدونة التي نريد أن نكون من كتابها؛ فمن وجد أنّ لديه ميولًا في كتابة القصة القصيرة جدًا؛ فعليه أن يقرأ ما لا يقل عن مئة مجموعة قصصية قصيرة جدًا؛ حتى يتمكن من أن يكون كاتبًا جيدًا في مجالها.

كل هذه الصعوبات يواجهها من يريد أن يكتب قصة قصيرة جدًا محدودة الشخصيات، شخصيتان لا أكثر، ومحدودة الحوارات، ومحدودة الزمن، ومحددة الهدف، فما أكبر وأصعب مهمة كاتب الرواية القصيرة جدًا، المتعددة الشخصيات الرئيسة والثانوية، والمتعددة الحوارات، وانتقالات الزمكان، والمحددة الهدف المنشود بأقصر الجمل وأقل الكلمات وأرشق الحوارات، محافظًا على اشتراطات أمها الرواية!

لقد كتبت الرواية الطويلة بأقل قدر من التوتر والحذر من الانزلاق إلى جنس أو نوع أدبي مجاور، بينما كتبت الرواية القصيرة جدًا، وأنا في غاية التوتر والتركيز والحذر من الإسهاب حتى لا أنزلق إلى الرواية القصيرة، ولا أن أوغل في الاختزال والتكثيف لأنزلق صوب القصة القصيرة جدًا، أو إلى النص الشعري النثري الحديث، والخوف الشديد من عدم القدرة على إيصال الفكرة ومضمون الثيمة الروائية إلى المتلقي بأقصر الجمل وأقل الكلمات. يجب أن تكون الرواية القصيرة جدًا رشيقة القوام حد النحافة، مكتنزة المعنى والمبنى حد النشاط والحيوية وخفة الحركة المشوقة للمتلقي. تتحول الرواية القصيرة جدًا إلى نص وامض متعدد الفجوات والفراغات، ويتحول النص إلى دوائر متوالية متسعة دائمًا في مخيلة المتلقي، لتسد وتشغل كل الفجوات والفراغات التي تركها المؤلف لتكون من حصة المتلقي لسدها بطريقته الخاصة، وما يختزنه من خبرة ومعلومات حول الشخص أو المكان أو الحدث الذي يبدو ناقصًا غير مكتمل المواصفات ضمن المتن الروائي، مما يوفر للمتلقي متعة المشاركة في كتابة النص، كما تتعدد المعاني والمباني للنص بتعدد القراءات بعدد القراء. وهنا تكمن الصعوبة التي يواجهها كاتب الرواية القصيرة فيما يقدمه للمتلقي، وما يحجزه ليكون من حصته، على أن يكون الروائي متفهمًا لبيئة هذا المتلقي، وفي ما يستبطنه من معلومات متعلقة بثيمة الرواية، حتى يتمكن من بناء نص ثان، من دون فراغات، مواز للنص الأول …

فبعضهم يتهم كاتب الرواية القصيرة جدًا، بأنه لجأ إلى كتابة هذا النوع الجديد من الرواية لأنه لا يمتلك الخيال والمخزون اللغوي لكتابة الرواية الطويلة والرواية القصيرة، أي أنَّه لا يمتلك هشاشة الهذر والاستغراق في التوصيف والتعريف والإكثار من المرادفات والإفراط في التشبيه والتزويق اللفظي، ليقدم عملًا روائيًا (مكروشًا) متخمًا بما هو معروف ومعاد ومكرر، يولد الملل والكلل من قبل المتلقي، وهو المحاصر بالزمن المحدود ضمن كده الحياتي اليومي.

 فلقد أكد النقاد وأجمعوا على صعوبة كتابة القصة القصيرة جدًا، حيث الجهد مضاعف، والصعوبة كبيرة جدًا، كذلك، في كتابة الرواية القصيرة جدًا. وكتابتها ليست نزهة، وإنما هي عصارة فكر وجهد، ومكابدة للقلم وللعقل.

 فمن لا يستطيع السباحة عليه ألا يقترب من الساحل.

حميد الحريزي

أديب وصحفي عراقي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى