عن مواسم… الفقد
قد يكون الفقد من أقسى المشاعر الإنسانية التي يختبرها البشر، كونه مزيجًا بين الغضب والكره، والحزن والألم، والرفض والإنكار والتسليم… وإذا كانت تجربة الموت من أكثر التجارب الإنسانية التي تترك أثرًا في الوجدان، فإنها أيضًا الأكثر تأثيرًا في تشكيل المشاعر والمواقف من الحياة.
كيف تتحول فجائع الموت إلى مؤلفات حية؟ ما الذي يضيفه هذا النوع من الأدب إلى الإنسانية والذاكرة؟ وهل يبقى أدبًا لا يتخطى حدود الذات؟ كيف نعطي للشعر وللسرد معنى، عندما تكون طبيعة الحدث مبهمة وغير واضحة حتى للشخص الذي حدث معه؟ هل يعالج هذا النوع من الأدب حالة الفقد حقًا؟ أو أنه يتعلق بإشكالية البقاء على قيد الحياة لأولئك الذين يواجهون مواقف استثنائية؟
في دراسته الصادرة في العام 1917 بعنوان” الحداد والكآبة” يقول “فرويد”: “ينطوي الحزن على انحرافات خطيرة تنأى بنا عن نمط حياتنا الطبيعي”، وإذا كان ألم الفقد يُعدّ اختلالًا، فخصوصيته تميّزه من كل الاختلالات الأخرى، كونه “سيتم التغلب عليه بمرور الوقت”.
أما “ميلاني كلاين”- محللة نفسية نمساوية – فترى في بحثها الصادر في العام 1940، بعنوان “الحداد وصلته بحالات الهوس الاكتئابي”، أننا: “لا ننظر إلى الفقد كحالة مرضية، وإنما كظاهرة شائعة وطبيعية. في الحِداد يعيش المحزون حالة عابرة ومحوّرة من الهوس الاكتئابي، ويتغلّب عليها”.
“يوميات الحِداد”، كتاب شذرات للكاتب الفرنسي “رولان بارت”. بدأ “بارت” بكتابة هذه الشذرات بعد موت والدته بيوم واحد، واستمر في كتابتها وتجميعها مدة سنتين، هو الذي اندرجت كتاباته جميعها تحت معنى موت الأم وفقدانها. وإذا كان المقصود هو كتابة اليوميات، فلمَ لمْ تتعدَّ هذه الكتابات الشذرات؟ يجيبنا “بارت” عن هذا السؤال: “الكتابة في الحقيقة ليست شيئًا سوى البقايا الفقيرة والهزيلة للأشياء العظيمة الموجودة في دواخلنا”. ويقول في مكان آخر: “إن ما ننتهي إليه في الكتابة هو الكتل الصغيرة الشاذة الغريبة، وبالمقارنة مع النسيج المعقّد المنسجم الأجزاء والموجود داخلنا فإنه لا يشيّد بناء كليًا، بل يعمل على ترك بقايا وفضلات متنوّعة ظاهرة للعيان”.
يقول “بارت” في إحدى شذراته عن الفقد: “شيئًا فشيئًا يتحدد تأثير الفقد. ليس لديّ الرغبة في بناء أي شيء من جديد، ما عدا الكتابة”. وفي شذرة أخرى يقول: “الأدب: ألا أستطيع القراءة من دون ألم؟ من دون اختناق من الحقيقة؟”.
في العام 1927 صدرت رواية “إلى الفنار” للأديبة البريطانية “فرجينيا وولف”، وهي واحدة من أشهر رواياتها، واعتُبرت من ضمن أفضل مئة عمل أدبي على مرّ العصور (وفق مكتبة بوكلوين العالمية)، تستحضر فيها الكاتبة قصة موت أمها وشقيقتها من خلال موت شخصية السيدة “رامزي”، اتبعت فيها “وولف” أسلوب الروائيين الحداثيين، فزخرت الرواية بالتأمل الفلسفي والأسلوب الأدبي المعروف بـ “سيل الوعي”، والبحث في معنى الخسارة والذاتية ومشكلة الإدراك. وتتميز الرواية بلعبة الزمن، فإذا بالوقت يُقاس بحسب الشخصيات، ويقفز بين طبقات الذاكرة.
لقد أجريت العديد من الدراسات حول الرواية كأنموذج عن الحداثة والذاتية. هي الرواية التي تكاد تخلو من الأحداث والحوارات، لكنها زاخرة بالقضايا الإنسانية كالذاكرة، والماضي، والصداقة، والهوية، والقانون، والنظام، والحب…
في العام 2011 أصدرت “ميغان أورورك” عملها الجنائزي المهيب: “الوداع الطويل”، بعد أن أمضت ثلاث سنوات بجانب أمها المريضة، فدوّنت الحكاية من دون أن تتقصّد أن تكتب كتابًا، تقول: “هدفت إلى علاج نفسي بالكتابة”، هي التي تجاوزت شلل الحزن، ودونت قصتها مع أمها منذ حكايات ما قبل النوم، إلى ذلك الوقت الذي تقاسمتاه بين حبوب الأدوية وروائح المورفين.
قد تكون رواية “اختراع العزلة”، للروائي الأميركي “بول أوستر”، التي كتبها كمرثية في وداع والده بعد موته المفاجئ، نوعًا خاصًا من “أدب الجنائز”، هو الذي لم يكن على وفاق مع والده القاسي والصارم، ذي الطبع السيء والألفاظ البذيئة. فإذا به يبدو في هذه الرواية خائفًا من الموت أكثر من حزنه على والده: “هل الموت قريب إلى هذه الدرجة؟ يتمشى بيننا ويصطاد حتى الأقوياء! “هي مرثية تختلف عن كل ما قرأناه في هذا الأدب، ولا تمتّ بصلة إلى “واذكروا محاسن موتاكم”.
بكت “جويس أوتيس” في روايتها “قصة أرملة” مودعة زوجها بعد زواج دام نحو نصف قرن، فأفرغت كل ألمها وهي تصف مراقبتها له وهو يفارق الحياة على سرير المستشفى، في وقت لا يدري فيه الآخرون ما تمر به من مأساة، والغريب أنه ترك لها رسالة على زجاج سيارتها: “تعلمي كيف تركنين سيارتك أيتها العاهرة”.
ماذا نفعل نحن الغرباء بهذا الشعور بالذنب الذي نحسّه عندما نعلم بمآسي الآخرين التي لم نسمع عنها من قبل؟ يبدو أحيانًا أن الحياة تضعنا في مواقف نخجل فيها من أنفسنا، عندما ندرك آلام الآخرين التي سهونا عنها.
منذ فجر التاريخ والكتابة تعرض نفسها وسيلة علاجية في الأوقات العصيبة والخسارات الكبرى، فإذا بها مع عملية التفريغ تمتص الوجع، فتحوّل البكاء والنواح المبكرين إلى منحوتات ونقوش وكتابات على الصخور وفي المغاور، وإلى معلقات وروايات وأغانٍ…
كان الخاسر يقف وحيدًا أمام الفاجعة، فالطبيعة قاسية، والصحراء قاحلة، والغد مجهول والخسارات تتوالى، وفي خضمّ البحث عن طرق لمواجهة هذا الكمد، كان اللجوء إلى الآلهة كطريقة للمواساة والوعد بالحياة الآخرة واللقاءات بعد الموت، فكان الإيمان بالقوى الإلهية ثلج القلوب المكلومة من جهة، ومن جهة أخرى كان سببًا صريحًا لوضع مسألة الفقد والألم تحت مجهر التأمل والتفكر، فالكاتب أو الفنان ليس شخصًا عاديًا، هو المفطور على الشك والسؤال والبحث والقلق، فإذا به يبتكر طريقة نجاته وترياقه الخاص.
في مقابل المأساة البشرية في الأزمنة الأولى، ظهر الشعراء يبكون تجاربهم وخسائرهم ومآسيهم، فبكوا رحيل القبيلة والحبيبة، وموت الأهل، وهجران المواقد… فكان دمع امرئ القيس، وقيس ابن الملوح، والخنساء… أما “ابن خذام” فعُرف بأول باكٍ للديار، ليشرح لنا “الأعشى” أن هذا الرثاء والشعر ليس إلا محاولة للتماسك والتغلب على الألم. وفي العصر الحديث هناك “نزار قباني” و”عباس بيضون”… وكثر غيرهما ممن كتبوا عن الفقد.
إذا كان أدب الفقد يتعرض لانتقاد التقليديين والمتحفظين كأدب للبوح، إلا أنه أثبت نفسه من خلال تشريحه للتجربة البشرية، وفحص المعاناة وبرهان تكرارها وتشابهها، وكيفية تعامل وتفاعل أصحابها مع الحدث.
أما نحن الذين نبكي أحبابًا وأصدقاء وجيرانًا وشبابًا وأطفالًا وأبطالًا ومدنًا وقرى وبيوتًا… وذكريات في حرب همجية متوحشة، كم قصة فقدٍ نسمع الآن؟ وكم قصة فقدٍ قد نقرأ في المستقبل؟ ربما لن نستطيع في البدء أن نتكلم، إنها المأساة… قد تحوّلُنا إلى صفحات فارغة، ثم قد نبدأ الكتابة بصمت وذهول، فنستعيد الألم ونستعيد الكلام.
أما من طريقة أخرى لحراسة هذه الذاكرة؟ فهل علينا أن نكتب قصصنا، وأن نسقي ترابنا كل هذا الدم لنقبّل “دحنون” الربيع؟!
ويبقى السؤال الأشد وجعًا: هل يتألم الموتى عندما… نبكيهم؟!